الترامبية .. الجذور والقوى الداعمة وخطاب الحنين

مركز سياسات للبحوث والدراسات الاستراتيجية

لقد تركت العولمة آثارها المدمرة على الاقتصادات الوطنية في دول الجنوب. ويبدو أن صانع السم قد تجرع هو الآخر منه وذاق مذاقه، فثار عليه. لقد انقلب الساحر على صاحبه. وتحولت العولمة من أداة لترسيخ النموذج الأمريكي عبر العالم، إلى وسيلة ناجعة لقلب ميزان الصلاحية الأمريكية، موجها الدفة باتجاه التعددية الثقافية التي أدت في النهاية إلى مشكلات عميقة داخل الاقتصاد والثقافة الأمريكية. وبدلا من التعامل مع صعود اليمين المتطرف كنتاج لهيمنة التصورات المحافظة للعالم في المجتمع، الأجدى النظر لهذا الصعود كاستجابة مضادة لسياسات مؤثرة بعمق. وكما كان هو الحال في بداية صعود العولمة، تعيش الولايات المتحدة ذات المشكلات. ففي البداية، خرجت أصوات معارضة في الأوساط الفكرية بالجنوب منددة بآثار العولمة على الانتماء الوطني، وتأثيرها على الأنماط الثقافية المحلية، وتحطيمها لمصادر القوة الاقتصادية في المجتمعات الضعيفة. وعلى الرغم من المكتسبات التي حازتها المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية، إلا أنها فقدت مع الوقت قواعدها الشعبية، التي عانت بشدة من ارتفاع نسبة البطالة، وافتقادها لوطنها الأمريكي القديم. 

 إن الترامبية هي حنين إلى ذلك الماضي الأمريكي البعيد. علاوة على ذلك، فإن النخب الأمريكية كانت متخوفة من عدم قدرة الولايات المتحدة على مواصلة حضورها الإمبراطوري، وتحولها من إمبراطورية ذات تأثير على دول الأطراف، إلى دولة قومية ذات تأثير محدود. ولقد رأت الترامبية في تلك المحافظة على الوضع الإمبراطوري فرصة تاريخية لها، لا تتحقق إلا بالعودة عن المسار الذي اختطه أنصار العولمة والتعددية الثقافية والمدافعون عن حقوق الأقليات والمهاجرين والعدالة الاجتماعية. والمضي قدما نحو مناصرة القومية الأمريكية البيضاء.

ولعل هذه النزعة الأيديولوجية والسياسية جزء من موجة عارمة تجتاح الغرب كحصان طروادة الجامح، بدءا من تحطيم تمثال "الاتحاد الأوروبي" بخروج بريطانيا منه، وصعود نجم مارين لوبان في فرنسا في فترة من الفترات، وغيرها من رموز الحركات اليمينية الحنينية في ألمانيا وإيطاليا، التي استطاعت أحزابها الظهور بقوة في كافة المحافل الانتخابية المتتابعة.

الجذور: حزب الشاي

إن صعود الترامبية مرهون بجذور تاريخية، كانت تنتظر من يحولها إلى أجندة سياسية فاعلة قادرة على الصعود والانتشار والهيمنة. لقد كانت الطبقة الوسطى البيضاء بطوابعها المحافظة هي الطبقة المسيطرة طوال فترة الخمسينات والستينات، وقت ما سمي فيما بعد "فترة العظمة الأمريكية". وكان الحزب الجمهوري نفسه، المحيط الأيديولوجي والسياسي للترامبية، يتألف من هذه الطبقة المهيمنة، إلى جوار أصحاب المشروعات الصغيرة والمهنيين المحافظين (أطباء ومهندسون إلخ) ومدراء المؤسسات.

ومع العولمة تغير كل شيء. انتقلت المصانع خارج أمريكا، وأصبح الاعتماد أكبر على الواردات الوافدة، وازداد معدل الهجرة، وارتفع منسوب التعددية. لم تعد أمريكا كما كانت في عيون الطبقة الوسطى العليا والمتوسطة. ولم يكن الحزب الجمهوري قادرا على التقاط المشاعر الغاضبة للشرائح الاجتماعية الواسعة من العمال وأبناء الطبقة المتوسطة البيض الغاضبين من سياسات العولمة. لقد اكتفى فقط بالانحياز للرأسماليين وأصحاب الأعمال عمليا من خلال بعض الاجراءات الداعمة لهم، مثل خفض الضرائب، وتقليل الفوائد، وتقييد النقابات العمالية، والحد من تصويت الأقليات. وفي الآن ذاته، كان غضب هذه الفئات موجها أيضا تجاه اليسار الديموقراطي. وتصاعد هذا الغضب بقوة مع أزمة الرهن العقاري التي شهدتها أمريكا حين قام الحزب وقتها بإنقاذ البنوك والشركات، بينما ترك هذه الشرائح تعاني. لقد فقدت هذه الفئات أمانها الوظيفي، خصوصا من يعيش منها في المناطق الصناعية، كما خسرت منازلها ومكانتها الاجتماعية كعمود فقري للبلاد. 

وفي هذه الأجواء نشأ تيار حزب الشاي Tea Party داخل الحزب الجمهوري ، بعد الأزمة المالية 2008، وتكون من كبار السن البيض، وأصحاب الأعمال الصغيرة، والمهنيين وبعض العناصر من كبار الرأسماليين. وبالطبع استغل الرأسماليون هذا الحزب الذي يهاجم النقابات العمالية ويعارض الرفاه الاجتماعي ويطالب بتحرير السوق وخفض الضرائب. هنا يوجد بالطبع تناقض صارخ، بين طبقة وسطى بيضاء ورفاه اجتماعي وسياسة منحازة للعمال. فهذه الشرائح الاجتماعية لم تكن في الحقيقة ترى في تلك السياسات سوى كونها سياسات تخدم الأقليات من السود واللاتين وغير المستحقين. مميزين في ذلك بين نوعين من الرفاه: رفاه شرعي يتمثل في معاشات التقاعد والتأمين الصحي الموجه للبيض، ورفاه غير شرعي ممثل في إعانات البطالة المستهدفة برأيهم للكسالى من الأقليات. وهكذا نظرت هذه الشرائح للمهاجرين كمنافسين على عدة نواح: منافسون في سوق العمل الحر، وعلى الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة. ولذلك طالبوا بمزيد من فرض القيود على الهجرة وعلى المهاجرين.

 ولكن لم تكن كافة عناصر هذا التيار ضد المهاجرين. فأصحاب المصانع وشركات التكنولوجيا وكافة المؤسسات التي تحتاج لعمالة رخيصة، ترى البلاد في حاجة للعمالة المهاجرة، فهي عمالة مستأنسة بفضل وضعها غير المستقر، في ظل الدفع بفرض قيود، تجعل من حصول هؤلاء العمال على الجنسية طريقا شاقا، يساعد على مزيد من الاستغلال لهم.

ولكن شهر العسل بين القوى المحافظة (المهنيين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمديرين إلخ) وأصحاب الرؤوس المالية الكبيرة لم يستمر. وحدثت أزمة كبيرة في 2011. أنهت وجود تيار حزب الشاي في الحزب الجمهوري. تمثلت هذه الأزمة في رفض حزب الشاي أن تقوم الحكومة برفع سقف الديون لكي تستطيع تلبية احتياجاتها. وضغطت في سبيل تحقيق هذا المطلب، علاوة على مطالبتها بتقييد بعض البرامج الحكومية الاجتماعية بدلا من الاستدانة. وقد ترتب على ذلك أن قامت الحكومة الأمريكية بالامتناع عن تقديم بعض خدماتها لعدم وجود المال الكافي للقيام بذلك. وامتدت الأزمة 16 يوما. وتسببت في عدم استقرار الأحوال في البلاد. ولقد عارضت كلٌّ من غرفة التجارة الأمريكية وطاولة الأعمال المستديرة محاولات "تعطيل الحكومة" باعتبارها تهديدًا للأنظمة المالية الأمريكية والعالمية. وانتهى التحالف المتوتر بين حزب الشاي والطبقة الرأسمالية في خريف عام ٢٠١٣. بل وشنت في عام ٢٠١٤ حملات انتخابية تمهيدية ضد حزب الشاي. 

ولقد صورت عالم الإجتماع الأمريكية أرلي راسل هوتشيلد في كتابها "غرباء في أرضهم" رؤية مناصري حزب الشاي، الذين تبلورت رؤيتهم فيما بعد في صيغة خطابية، تجمع ما بين الإيمان بالفردية ورفض تدخل الدولة في الاقتصاد والحياة العامة. فقد أجرت دراسة ميدانية في ولاية أريزونا التي يعمل أهلها في شركات النفط. ورغم معاناة الأهالي من التلوث الناجم عن صناعات النفط، إلا أنهم لا يوجهون غضبهم مما يعيشونه تجاه الشركات بل ضد الحكومة الأمريكية ذاتها. إن الروابط التي تصلهم بها مقطوعة، فهم على المستوى الاجتماعي اليومي يعتمدون على الكنيسة كمصدر للأمان النفسي والعاطفي ومجتمعهم المحلي وعلاقات الجيرة التي تنقذهم في الأزمات. ولقد وصفت المؤلفة مشاعر هؤلاء الناس بمن يقفون في طابور الحلم الأمريكي ويتزاحمون عليه، فيما يتقدم الصفوف أشخاص آخرون غرباء عن الأرض تحتفي بهم الحكومة (حكومات اليسار على وجه التحديد) وتجعلهم يتجاوزون الطابور، ويحصلون على مصادر الأمان والراحة.

القوى الاجتماعية الداعمة: ألوان متعددة في الثوب الواحد

وتشمل هذه القوى على مجموعات متنوعة. أولها حركة ماجا MAGA (حركة اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى). والحركة تعتمد في قاعدتها الشعبية على الطبقة العاملة البيضاء من العمال وصغار الموظفين والشرائح الأقل تعليما وخاصة في المناطق الريفية والصناعية المتراجعة. كما تضم الحركة كلا من:

-"المحافظين الدينيين" من الإنجيليين البروتستانت والكاثوليك المحافظين الذين يربطون مشروع ترامب بالدفاع عن القيم المسيحية التقليدية، ويرون فيه أداة لحماية الدين من الليبرالية الثقافية. 

- المناهضين للفيدرالية: حيث يرفضون سلطة المؤسسات الفيدرالية الثقافية (الجامعات، الإعلام الوطني، البيروقراطية)، ويميلون إلى تعزيز سلطة الولايات والمجتمع المحلي.

- المناهضين لليبرالية: إذ يرون في الترامبية وسيلة لتنفيذ ثورة رجعية ضد القيم الليبرالية (المساواة الجندرية، حقوق الأقليات، العولمة، التعددية الثقافية).

وثاني القوى هي الحركة الليبرالية التقنية، وهي حركة تعتمد على رؤية استشرافية تعول على التقنية في تغيير الحاضر والمستقبل، وأنصارها من أصحاب رؤوس الأموال، وبعض اليساريين القدامى، وأنصار حرية التعبير المطلقة. الحركة مهتمة بحل القضايا الإنسانية باستعمال التكنولوجيا، ورفض أشكال الديموقراطية غير المباشرة، تغليبا للديموقراطية المباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وثالث القوى جمهوريو النادي الريفي. وهذا اللقب يُستخدم في السياسة الأميركية لوصف فئة تقليدية من الجمهوريين، هم غالبًا من الطبقة العليا أو الميسورة، المنتمين إلى الضواحي المترفة أو المدن الصغيرة الغنية، من رواد الأندية الريفية country clubs. أنصار هذه القوة يركّزون على السياسات الاقتصادية المؤيدة لرأس المال، مثل خفض الضرائب، وتقليل القيود الحكومية على رأس المال، ودعم الشركات الكبرى. وهم أقل حدة من الجناح الشعبوي (حركة ماجا)، فهم أكثر ليبرالية اجتماعيًا، وغالبًا يبدون متحفظين تجاه الشعبوية الصاخبة. وفي المجمل كانوا يشكلون العمود الفقري للحزب الجمهوري قبل صعود نجم اليمين الشعبوي والمسيحيين الإنجيليين، أي منذ الخمسينات حتى الثمانينات.

تم نسخ الرابط