الاتحاد الأوروبي ومعركة سيادة البيانات: كيف يعيد تشكيل عصر الذكاء الاصطناعي العالمي؟

مركز سياسات للبحوث والدراسات الاستراتيجية

في قلب سباق الذكاء الاصطناعي العالمي المتسارع، يبرز الاتحاد الأوروبي كقوة تنظيمية استثنائية؛ وهو بدلاً من مجرد مواكبة الابتكارات التكنولوجية، اختار الاتحاد الأوروبي مسارًا استراتيجيًا يعتمد على "سيادة البيانات" كأداة محورية لتشكيل وصناعة المستقبل الرقمي. هذه الاستراتيجية، التي تتجاوز مجرد حماية خصوصية الأفراد، تمثل محاولة طموحة لإعادة توزيع القوة والقيمة في سلاسل الإمداد الرقمية، لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي، وتؤثر بقوة على اللاعبين العالميين، بما في ذلك القوى التكنولوجية المؤثرة مثل إسرائيل.

أولاً- بناء الإمبراطورية الرقمية الأوروبية – استراتيجية "تأثير بروكسل"

الاتحاد الأوروبي كان دائماً واعياً أن البيانات تعتبر "نفط القرن الواحد والعشرين" ومن هذه النقطة انطلقت رحلة بناء أسس متينة للسيادة الرقمية. حيث بدأت هذه الرحلة بتشريعات مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، التي لم تكن مجرد خطوة لحماية الخصوصية، بل كانت إعلانًا عن قيم الحقوق الأساسية في العصر الرقمي، وفرضت معيارًا عالميًا من الصعب أن تتجاهله أغلب الدول والمناطق .

لكن لم يتوقف طموح الاتحاد الأوروبي عند هذا الحد؛ فمن خلال ما يُعرف بـ"تأثير بروكسل" – أي قدرته على فرض معاييره وقيمه على الساحة العالمية – بدأ في صياغة قوانين تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي؛ ومنها:

  1. قانون البيانات :(Data Act) دخل حيز التنفيذ في سبتمبر 2025، وهو يُعد بمثابة "دستور للبيانات الصناعية". يمنح هذا القانون الأفراد والشركات الحق في الوصول إلى البيانات التي تولدها أجهزتهم المتصلة، مما يكسر احتكار الشركات المصنعة ويفتح الباب لمنافسة وابتكار جديدين في قطاعات حيوية مثل التصنيع والسيارات.
  2. قانون الذكاء :ChatGPT said يُعد هذا القانون بلا شك حجر الأساس في استراتيجية الاتحاد الأوروبي. فقد دخل حيّز التنفيذ في أغسطس 2024، واضعًا قواعد واضحة لتطوير ونشر أنظمة الذكاء الاصطناعي، من خلال تصنيفها وفق مستويات المخاطر، وفرض متطلبات صارمة على الأنظمة عالية الخطورة. وبحلول أغسطس 2025، بدأ تطبيق الالتزامات الخاصة بنماذج الذكاء الاصطناعي ذات الأغراض العامة (GPAI)، والتي تلزم بقدر أكبر من الشفافية بشأن بيانات التدريب وآليات إدارة المخاطر. ولم يقتصر أثر هذا النهج على السوق الأوروبية فحسب، بل دفع العديد من الشركات العالمية إلى مواءمة تقنياتها مع هذه المعايير، إدراكًا منها بأن "المعيار الأوروبي" قد يتحول إلى المعيار العالمي.
  3. قانون الأسواق الرقمية (DMA) وقانون الخدمات الرقمية (DSA): تعمل هذه القوانين على تنظيم قوة المنصات التكنولوجية الكبرى، مما يضمن المنافسة العادلة ويحد من احتكار القنوات الرقمية، ويؤثر بذلك على كيفية وصول خدمات الذكاء الاصطناعي إلى المستخدمين.
  4. تعزيز الأمن السيبراني: من خلال تشريعات مثل توجيه NIS2، يعزز الاتحاد الأوروبي مستوى المرونة الأمنية للبنية التحتية الرقمية، بما يضمن موثوقية أعلى للأنظمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.

ثانياً- إعادة هيكلة القوة – التأثير العالمي واستجابة اللاعبين

إن هذه المنظومة التنظيمية الطموحة للاتحاد الأوروبي لا تهدف فقط إلى حماية مواطنيه، بل هي محاولة جادة لإعادة تشكيل موازين القوى في الاقتصاد الرقمي العالمي؛ تسعى أوروبا من خلالها إلى:

  1. الحد من احتكار البيانات: من خلال منح المستخدمين حقوقًا أكبر على البيانات التي يولدونها، يهدف الاتحاد الأوروبي إلى كسر هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى التي تمتلك كميات هائلة من البيانات.
  2. توجيه الابتكار: يضع قانون الذكاء الاصطناعي سابقة دولية لتطوير ونشر الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة وأخلاقية. وعلى الشركات الراغبة في دخول السوق الأوروبية أو التعاون معها أن تلتزم بتلك المباديء.
  3. بناء استقلالية تكنولوجية: عبر دعم مبادرات مثل "الفضاء الأوروبي للبيانات"(EHDS)  والمشاريع السحابية الأوروبية، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى بناء بنية تحتية رقمية مستقلة، تقلل من الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية.

تجد الشركات العالمية، ولا سيما الكبرى منها، نفسها أمام تحدٍ مزدوج: الامتثال للوائح المعقدة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، مع الاستمرار في الحفاظ على قدرتها التنافسية. وقد دفعها هذا الواقع إلى إعادة تقييم استراتيجياتها في جمع البيانات، وتطوير النماذج، وتوزيع الخدمات. فعلى سبيل المثال، قامت شركة مايكروسوفت وجوجل بإجراء تعديلات على أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بهما لتتوافق مع قواعد الشفافية وإدارة المخاطر التي يفرضها قانون الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعكس بوضوح قوة "تأثير بروكسل" في إعادة تشكيل السوق العالمية.

ثالثاً- إسرائيل كنموذج – التكيف مع التحولات التنظيمية العالمية

تُعد إسرائيل، بقطاعها التكنولوجي المزدهر وسمعتها في الابتكار، نموذجاً بارزاً لكيفية تفاعل الدول مع التحولات التنظيمية العالمية. ففي الوقت الذي يسعى فيه الاتحاد الأوروبي إلى فرض معاييره، تجد الشركات الإسرائيلية نفسها مطالبة بالاستجابة والتحرك بمرونة استراتيجية

1- الاستجابة للتشريعات الأوروبية

  • تعزيز حماية البيانات:

تسعى إسرائيل إلى تحسين منظومة حماية البيانات لديها عبر تعديلات مستوحاة من اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، لضمان الحفاظ على حالة "الملاءمة" (adequacy) وسهولة نقل البيانات إلى الاتحاد الأوروبي. هذه الحالة تعتبر بالغة الأهمية للاقتصاد الوطني، نظرًا لكون قطاع التكنولوجيا يشكل نحو 20% من الناتج المحلي و53% من الصادرات حسب تقارير إسرائيلية حديثة.

  • الامتثال لقانون الذكاء الاصطناعي (AI Act):

عدة شركات إسرائيلية بدأت بتكييف منتجاتها لضمان التوافق مع متطلبات قانون الاتحاد الأوروبي:

  • Mobileye طورت أول نظام "المساعدة الذكية للسرعة" بناءً فقط على الكاميرات  (Vision-only ISA)، وحصل على اعتماد متوافق مع المعايير الأوروبية، ويسمح بالتطبيق على موديلات سيارات موجودة في السوق دون الحاجة لتغييرات في الأجهزة.
  • بالإضافة، أطلقت الشركة نظام Mobileye Drive  للروبوتاكسي بالتعاون مع Volkswagen وUber، مع توقعات بزيادة الطلب القريب في الأسواق الأوروبية.
  • قواعد الشفافية للذكاء التوليدي  :(Generative AI)

دخلت قواعد جديدة حيز التنفيذ في 2 أغسطس 2025، تُلزم مطوري الذكاء التوليدي بالكشف عن مصادر بيانات التدريب، ضمان حقوق الملكية الفكرية، والإشارة إلى المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي. الشركات الإسرائيلية العاملة في هذا المجال أمامها خياران: استخدام بيانات مرخصة، أو بناء أدوات تتبع متقدمة مثل blockchain  لتتبع الحقوق.

2- المبادرات والنهج التنموي

  • المقاربة القطاعية المرنة

تتبنى إسرائيل نهجًا تنظيميًا يقوم على معالجة كل قطاع على حدة بدلًا من سن تشريعات شاملة تغطي جميع مجالات الذكاء الاصطناعي. ويتجلى ذلك في إطلاق "الصناديق التنظيمية التجريبية (Regulatory Sandboxes)، التي تتيح للشركات اختبار ابتكاراتها في بيئة خاضعة لإشراف الجهات التنظيمية، بما يتيح تعزيز الابتكار مع ضمان مستويات من الشفافية والمساءلة.

  • السياسة الوطنية للذكاء الاصطناعي

في عام 2023، أصدرت وزارة الابتكار والعلوم الإسرائيلية وثيقة للسياسة الوطنية في مجال الذكاء الاصطناعي، هدفت إلى تشجيع الابتكار المسؤول من خلال إرساء مبادئ توجيهية عامة وأطر تنظيمية ذات طبيعة قطاعي .(White & Case) وقد صُممت هذه السياسة لتوفر استجابة تدريجية للتطورات التقنية، مع إمكانية التحول لاحقًا إلى تشريعات أكثر تخصصًا تغطي قطاعات بعينها متى دعت الحاجة.

لقد اخترتُ إسرائيل كنموذج لدراسة كيفية التفاعل مع التحولات التنظيمية العالمية، ليس بهدف التركيز عليها في ذاتها، وإنما لنتأمل أين وصلت وكيف تكيفت مع هذه البيئة الجديدة، ثم نقارن ذلك بواقعنا العربي، فنرصد الفجوات ونتعرف على الفرص التي يمكن أن نستفيد منها لبناء مسارنا الخاص.

3- مقارنة مع الواقع العربي

  • غياب الإطار التشريعي الواضح: في الوقت الذي اعتمد فيه الاتحاد الأوروبي قوانين شاملة، وإسرائيل وضعت سياسات قطاعية مرنة، لا تزال معظم الدول العربية تفتقر إلى تشريعات متخصصة في الذكاء الاصطناعي.
  • الاعتماد على الخارج: بينما تسعى أوروبا للاستقلالية الرقمية، وتبني إسرائيل بيئة ابتكار وطنية متكيفة مع السوق الأوروبي، تعتمد الدول العربية بدرجة كبيرة على حلول وتقنيات مستوردة.
  • ضعف مراكز البحث والتطوير: إسرائيل خصصت صناديق تنظيمية ومبادرات وطنية للابتكار، في حين تظل الاستثمارات العربية في الذكاء الاصطناعي والأبحاث متواضعة ومجزأة.
  • الفرصة العربية: ورغم هذه الفجوة، تمتلك المنطقة العربية مقومات هائلة (سوق شاب، موارد مالية، طلب متزايد على التحول الرقمي)، ما يمنحها فرصة لصياغة مسار مختلف إذا تم بناء استراتيجيات وطنية واقليمية جادة.

خاتمة: المعركة القادمة – السيادة الرقمية

إن استراتيجية الاتحاد الأوروبي لسيادة البيانات في عصر الذكاء الاصطناعي تتجاوز كونها قضية تقنية بحتة، لتشكّل معركة جيوسياسية واقتصادية تسعى من خلالها بروكسل إلى إعادة صياغة قواعد النظام الرقمي العالمي وفق قيمها ورؤيتها الخاصة. وفي حين تجد دول مثل إسرائيل نفسها مطالبة بالتكيف مع هذه التحولات التنظيمية لضمان استمرار اندماجها في الأسواق الأوروبية، فإن الدول العربية تقف أمام لحظة فارقة. فالتحدي لا يتمثل فقط في الامتثال لمعايير خارجية، بل في بناء استراتيجيات وطنية واقليمية تعكس مصالحها وتُمكّنها من أن تكون فاعلاً مؤثرًا في صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي العالمي، لا مجرد متلقٍ لنتائجه.

تم نسخ الرابط