شائعات الوضع الصحي لترامب .. ملامح معركة السلطة داخل واشنطن

مركز سياسات للبحوث والدراسات الاستراتيجية

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع سبتمبر 2025 على وقع واحدة من أكثر اللحظات تعقيداً في تاريخها السياسي المعاصر، حيث تتقاطع مسارات متناقضة تجمع بين هشاشة القيادة الفردية وقوة البنية المؤسسية. ففي الوقت الذي انتشرت فيه شائعات واسعة حول الوضع الصحي للرئيس دونالد ترامب، مصحوبة باختفائه عن الأنظار لعدة أيام، كان مجلس الشيوخ يشهد تحركات غير مسبوقة من جانب الأغلبية الجمهورية تهدف إلى تعديل قواعده الداخلية عبر ما يعرف بـ"الخيار النووي"، من أجل تسريع تمرير التعيينات التنفيذية والقضائية التي رشحها ترامب. وفي خضم هذا المشهد، برز نائب الرئيس ج. د. فانس كلاعب محوري حين صرح باستعداده لتولي زمام السلطة إذا ما دعت الحاجة، في محاولة لتبديد المخاوف، وإن كان ذلك قد أضاف طبقة جديدة من الغموض السياسي.

هذه التطورات طرحت أسئلة عميقة حول قدرة النظام السياسي الأمريكي على امتصاص الصدمات، وحول التوازن بين استمرارية المؤسسات من جهة، وحضور الزعامة الفردية من جهة أخرى، بما يعكس التوترات البنيوية التي ترافق الديمقراطية الأمريكية في عصر الاستقطاب الحزبي الحاد.

أولاً- غياب ترامب والشائعات حول وضعه الصحي:

شكل اختفاء الرئيس ترامب عن الأنظار لمدة ثلاثة أيام متواصلة خلال عطلة "عيد العمال" حدثاً استثنائياً أثار سلسلة من التفسيرات والتأويلات. ورغم أن غياب الرئيس تزامن مع عطلة رسمية اعتاد خلالها معظم الساسة الابتعاد عن الأضواء، إلا أن طبيعة ترامب، الذي جعل من التواصل الإعلامي الدائم جزءاً من أسلوب حكمه، جعلت غيابه مادة خصبة لتفجر الشائعات.

كذلك لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مركزياً في تكثيف هذه الأزمة، حيث تصدر وسم #TrumpIsDead منصة "إكس" (تويتر سابقاً) في الولايات المتحدة والعالم، وهو ما حوّل الغياب العابر إلى مادة سجالية ذات أبعاد سياسية وإعلامية. لم يقتصر الأمر على المستخدمين العاديين، بل شارك فيه بعض المثقفين والسياسيين، معتبرين أن اختفاء الرئيس قد يخفي أزمة صحية كبرى أو حتى وفاته، في سيناريوهات ذكّرت كثيرين بلحظات الغموض التي اعتادت الأنظمة السلطوية على صناعتها وليس الديمقراطيات العريقة.

ومع عودة ترامب إلى الواجهة، ظهرت صور له تحمل إشارات مثيرة، أبرزها الكدمات الواضحة على يديه، ما دفع إلى مزيد من التأويلات حول حالته الجسدية. طبيبه الشخصي اضطر إلى إصدار بيان رسمي أوضح فيه أن الكدمات ناتجة عن الاستعمال المستمر لجرعات من الأسبرين واصطدامه المتكرر بالآخرين أثناء الأنشطة الاجتماعية، مضيفاً أن الرئيس يعاني من قصور وريدي مزمن (Chronic Venous Insufficiency)، وهي حالة شائعة لدى كبار السن تسبب تورماً في الكاحلين لكنها لا تشكل خطراً على الحياة.

ورغم أن هذه التوضيحات هدفت إلى تبديد المخاوف، إلا أنها لم توقف تدفق الشائعات، إذ استمرت التساؤلات حول مدى قدرة رئيس يبلغ من العمر 79 عاماً على الاستمرار في إدارة دولة تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية متصاعدة. وبذلك، تحولت الأزمة من مجرد قضية صحية إلى مرآة تكشف هشاشة القيادة الفردية في النظام الأمريكي حين تغيب الشفافية وتتصاعد الشكوك.

ثانياً- التحركات الجمهورية في مجلس الشيوخ :

في موازاة الجدل الدائر حول غياب الرئيس ترامب وصحة القيادة التنفيذية، كان مجلس الشيوخ يشهد واحدة من أكثر المعارك الإجرائية حساسية في تاريخه الحديث. فقد دفعت الأغلبية الجمهورية نحو تعديل جوهري في قواعد العمل الداخلي عبر ما يُعرف بـ"الخيار النووي"، وهو مسار استثنائي يتيح تجاوز التقاليد البرلمانية الراسخة، وتسريع تمرير التعيينات التنفيذية والقضائية دون الحاجة إلى التوافق الحزبي التقليدي أو منح المعارضة الديمقراطية مساحة واسعة للتأثير.

1- خلفية الخيار النووي

يُطلق مصطلح "الخيار النووي" في القاموس السياسي الأمريكي على استخدام الأغلبية البسيطة (51 صوتاً) لتغيير قواعد مجلس الشيوخ، بدلاً من الالتزام بالأغلبية الموصوفة (عادة 60 صوتاً) التي كانت مطلوبة لكسر العرقلة البرلمانية (filibuster). هذا الإجراء استُخدم سابقاً في مناسبات مفصلية، أبرزها عام 2013 حين لجأ الديمقراطيون بقيادة هاري ريد إلى تخفيض العتبة اللازمة لتمرير معظم التعيينات التنفيذية والقضائية (باستثناء المحكمة العليا)، ثم في عام 2017 حين عمّم الجمهوريون هذا النهج على تعيينات المحكمة العليا نفسها.

لكن ما يطرحه الجمهوريون في سبتمبر 2025 يبدو أكثر اتساعاً وخطورة، إذ يذهب أبعد من مجرد تخفيض العتبة التصويتية، ليشمل آلية جديدة تسمح بالتصويت على دفعات من المرشحين دفعة واحدة (en bloc) بدلاً من مناقشة كل مرشح على حدة. وبذلك، قد يتم تمرير أكثر من مئة تعيين في وقت قصير، الأمر الذي يغير جذرياً من طبيعة الرقابة التشريعية على السلطة التنفيذية.

2- مضمون التعديل المقترح

وفقاً للتقارير، ينص التعديل على السماح للجمهوريين بعرض قوائم من المرشحين لمناصب تنفيذية أو قضائية من الدرجة الثانية (مثل وكلاء وزارات، مناصب إدارية، وقضاة محاكم المقاطعات) والتصويت عليها جملة واحدة. بينما ستظل المناصب العليا مثل الوزارات السيادية، المحكمة العليا، ومحاكم الاستئناف خاضعة للمسار التقليدي الأكثر صرامة.

بهذا الشكل، يهدف الجمهوريون إلى تجاوز التكتيكات الديمقراطية القائمة على إطالة النقاش (delay tactics) أو فرض عمليات تدقيق فردية مطوّلة لكل مرشح، وهي أدوات كانت تُستخدم تاريخياً لحماية الأقلية وضمان أن التعيينات تمرّ عبر تمحيص جدي.

3- الأبعاد السياسية للتحرك

من الناحية العملية، يتيح هذا التعديل لترامب وحزبه ملء الشواغر الإدارية والقضائية بسرعة هائلة، خاصةً أن عدد هذه المناصب يتجاوز المئات، وتشكل عماد البيروقراطية الفدرالية. فحتى في حال حدوث اضطراب أو فراغ على مستوى الرئاسة – كما يلمّح البعض في ضوء الشائعات الصحية – فإن "ترمبة" الجهاز البيروقراطي ستضمن استمرار توجهات الإدارة الجمهورية، وتثبيت مشروعها في مؤسسات الدولة العميقة.

هذا التحرك يعكس إدراك الجمهوريين أن السيطرة على الجهاز الإداري والقضائي لا تقل أهمية عن السيطرة على البيت الأبيض نفسه. فالمؤسسات القضائية والتنظيمية قادرة على التأثير في السياسات لعقود، حتى بعد رحيل الرؤساء المنتخبين.

4- المعارضة الديمقراطية

في المقابل، أطلق الديمقراطيون حملة معارضة شرسة ضد هذه الخطوة. زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، اعتبر أن التعديل يقوّض مبدأ "المشورة والموافقة" (advice and consent) المنصوص عليه في الدستور، ويحوّل مجلس الشيوخ من غرفة للنقاش والتدقيق إلى مجرد آلة تصديق. أما السيناتور أليكس باديّا فذهب أبعد من ذلك محذراً من أن "الإجراءات الاستثنائية التي تُتخذ اليوم قد تكون لها عواقب أبعد من رئاسة ترامب، لأنها تعيد تعريف وظيفة مجلس الشيوخ نفسه”.

هذه الانتقادات تستند إلى رؤية تاريخية لمجلس الشيوخ باعتباره الغرفة الأكثر "تأملاً" (deliberative body)، حيث يفترض أن تتجاوز المداولات الاعتبارات الحزبية المباشرة، وأن تمنح الأقلية فرصة حقيقية للتأثير. من هنا، فإن إضعاف هذه الوظيفة التقليدية قد يفتح الباب لمزيد من الاستقطاب المؤسسي في المستقبل.

5- دلالة التوقيت:

لا يقل توقيت هذه الخطوة أهمية عن مضمونها. فالتحرك جاء في ذروة الجدل حول صحة الرئيس واختفائه المؤقت، ما يمنحه بعداً رمزياً إضافياً: الجمهوريون يسابقون الزمن لإظهار أن السلطة التنفيذية محصّنة ولن تتعطل، حتى لو واجه ترامب نفسه أزمة شخصية أو قيادية. بهذا المعنى، يصبح "الخيار النووي" ليس فقط أداة إجرائية، بل أيضاً رسالة سياسية موجهة إلى الداخل والخارج بأن المؤسسات الأمريكية – على الأقل بيد الجمهوريين – قادرة على الاستمرار دون انقطاع.

ثالثاً- تصريحات ج. د. فانس – طمأنة أم تأجيج؟

في خضم هذا المشهد الملبد بالشائعات، اختار نائب الرئيس ج. د. فانس أن يتقدم إلى الساحة الإعلامية عبر مقابلة مع صحيفة USA Today  أواخر أغسطس 2025، حيث أدلى بتصريح حمل أبعاداً متناقضة. فقد قال: "إذا حدثت مأساة فلا أستطيع أن أتخيل تدريباً عملياً أفضل مما تلقيته خلال الـ200 يوم الماضية." وفي الوقت ذاته شدد على أن الرئيس ترامب يتمتع بـ"صحة جيدة للغاية" وأنه يواصل العمل حتى ساعات متأخرة من الليل.

من زاوية أولى، أراد فانس أن يبعث برسالة طمأنة إلى الداخل والخارج بأن السلطة التنفيذية محصّنة ضد أي فراغ محتمل، وأن الانتقال – إذا ما اقتضت الظروف – سيكون سلساً ومؤطراً دستورياً. هذه الرسالة كانت موجهة بشكل خاص إلى الأسواق المالية، والمؤسسات البيروقراطية الفدرالية، والشركاء الدوليين الذين يتابعون المشهد الأمريكي عن كثب. في هذا السياق، يمكن فهم تصريح فانس كامتداد لسياسة تقليدية في النظام السياسي الأمريكي، تقوم على تقديم البدائل المؤسسية لضمان الاستقرار حتى في لحظات الغموض.

لكن من زاوية أخرى، أثار التصريح نتائج عكسية؛ إذ اعتُبر بمثابة اعتراف ضمني بوجود مشكلة صحية أو سياسية حقيقية لدى الرئيس، ما غذّى موجة الشكوك بدلاً من تهدئتها. على مواقع التواصل، التُقط الجزء المتعلق بـ"استعداده لتولي المسؤولية" باعتباره إشارة مبطّنة إلى أن ترامب قد لا يكون قادراً على الاستمرار، فيما استُبعدت تطميناته اللاحقة من النقاش العام. هذه المفارقة تعكس ظاهرة أوسع في عصر الإعلام الرقمي، حيث يتم تضخيم أجزاء من التصريحات بما يخدم السرديات القائمة مسبقاً، حتى لو كان الهدف الأصلي معاكساً.

والتاريخ السياسي الأمريكي يوفر سوابق مثيرة للمقارنة. فحين أصيب الرئيس دوايت آيزنهاور بأزمة قلبية في خمسينيات القرن الماضي، لعب نائبه ريتشارد نيكسون دوراً محورياً في طمأنة الجمهور، لكن ذلك جرى في إطار ضبط إعلامي صارم وتنسيق وثيق مع البيت الأبيض. كذلك، عندما تدهورت صحة فرانكلين روزفلت في سنواته الأخيرة، ظل البيت الأبيض يفرض رقابة محكمة على المعلومات، فيما عملت النخبة السياسية على الحفاظ على صورة الرئيس القوي رغم معرفتهم بحقيقة تدهور وضعه. بالمقارنة مع تلك اللحظات، يبدو تصريح فانس أقل ضبطاً وأقرب إلى العفوية، وهو ما جعل أثره السياسي والإعلامي أكثر ارتباكاً.

إضافة إلى ذلك، ينبغي النظر إلى شخصية فانس نفسه كعنصر مؤثر. فهو من الوجوه الصاعدة في الحزب الجمهوري، ويتمتع بقاعدة جماهيرية بين أوساط "الترامبية" الجديدة، لكنه لم يخضع بعد لاختبارات كبرى على مستوى القيادة الوطنية. لذلك، قد يكون تصريحه انعكاساً لرغبته في إثبات الجاهزية القيادية، أكثر مما هو استراتيجية محسوبة بعناية. بهذا المعنى، يتحول التصريح إلى مؤشر على التوتر الكامن داخل الإدارة بين الحاجة إلى إظهار الانضباط المؤسسي وبين النزعة الفردية نحو إثبات الذات.

وبذلك، يمكن القول إن تصريحات فانس مثلت "سيفاً ذا حدين": فهي من ناحية عززت صورة المؤسسات الأمريكية القادرة على التعامل مع أي طارئ وفق الدستور، لكنها من ناحية أخرى أعادت تسليط الضوء على هشاشة وضع ترامب الصحي والسياسي، وهو ما فتح الباب لمزيد من الجدل حول استقرار القيادة في البيت الأبيض.

رابعاً- البعد الدستوري والمؤسسي:

لا يمكن فصل أزمة التصريحات والتحركات الجارية في مجلس الشيوخ عن الإطار الأوسع للنظام الدستوري والمؤسساتي الأميركي، إذ أن ما يجري يضع على المحك التوازنات الدقيقة التي أرساها الآباء المؤسسون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. فمن ناحية، يلوّح الجمهوريون باستخدام ما يُعرف بـ"الخيار النووي"، أي كسر تقليد التعطيل (filibuster) الذي يشكّل أداة حماية للأقليات داخل المجلس منذ عقود، وهو ما يعني عمليًا إعادة تعريف قواعد اللعبة البرلمانية بما يتيح للأغلبية تمرير قرارات مصيرية من دون الحاجة إلى توافق واسع. ومن ناحية أخرى، يرى الديمقراطيون أن التوجه الجمهوري لا يقتصر على مواجهة سياسية آنية، بل يهدد جوهر مبدأ الضوابط والتوازنات (checks and balances) الذي يقيد نزعات التفرد بالسلطة.

الجدل الدستوري لا يقتصر على النصوص الجامدة، بل يمتد إلى إرث الأعراف البرلمانية التي طالما مثّلت ما يُعرف بـ"الدستور غير المكتوب" في الكونغرس الأميركي، حيث مثّل نظام التعطيل ضمانة لاستمرار الحوار والبحث عن حلول وسط. غير أن المناخ السياسي المتشنج، والمشحون بتصريحات من نمط تصريحات فانس التي تقوّض الثقة المتبادلة، قد يجعل من كسر هذا العرف سابقة تُعيد رسم حدود التفاعلات داخل المؤسسة التشريعية لعقود مقبلة.

في البعد الأوسع، تعكس هذه اللحظة أزمة ثقة مؤسسية مزدوجة: ثقة بين الحزبين، وثقة بين الكونغرس والرأي العام الذي يشاهد مؤسسات الحكم عاجزة عن الاتفاق حتى على قواعد إدارة الخلاف. وهنا تتبدى خطورة الأزمة، فهي ليست مجرد معركة حول صلاحية الرئيس أو مستقبل سياسة خارجية بعينها، بل اختبار لمتانة البناء الدستوري الأميركي في مواجهة استقطاب حزبي غير مسبوق.

خامساً- الانعكاسات الإقليمية والدولية:

تتجاوز تداعيات الأزمة الراهنة حدود المشهد الأميركي الداخلي لتترك بصماتها المباشرة وغير المباشرة على التوازنات الإقليمية والدولية، إذ أن العالم يتابع عن كثب كيف ينكفئ النظام السياسي الأميركي على ذاته في لحظة اختبار حادة، وهو ما يعيد طرح أسئلة قديمة حول استمرارية القيادة الأميركية في النظام الدولي. بالنسبة للحلفاء التقليديين في أوروبا، تُترجم تصريحات من نمط ما أطلقه فانس، والتحركات الجمهورية في مجلس الشيوخ، إلى إشارات مقلقة عن هشاشة الإجماع الأميركي على الالتزامات الخارجية، وهو ما يعزز الأصوات الداعية في بروكسل وبرلين وباريس إلى ضرورة بناء قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية تحسبًا لغياب المظلة الأميركية في أوقات الأزمات.

في الشرق الأوسط، تبدو انعكاسات الأزمة أكثر مباشرة. فالتجاذبات في الكونغرس تثير الشكوك حول مستقبل الدعم الأميركي لبعض الملفات الساخنة مثل الحرب في أوكرانيا، والالتزامات الأمنية في الخليج، والموقف من الصراع في غزة. القوى الإقليمية، سواء كانت حليفة لواشنطن أو خصومة لها، تقرأ هذه الانقسامات كنافذة لإعادة تموضع، إذ يدرك اللاعبون الإقليميون أن أي شلل في القرار الأميركي يتيح لهم هامش حركة أوسع للمناورة أو فرض وقائع ميدانية جديدة.

أما على المستوى الدولي الأوسع، فخصوم واشنطن الاستراتيجيون، مثل الصين وروسيا، لا يخفون ارتياحهم لما يعتبرونه "تصدعًا داخليًا" في بنية القرار الأميركي، حيث يجري استثماره في الخطاب الدعائي لتقويض صورة الديمقراطية الأميركية بوصفها نموذجًا عالميًا. وفي المقابل، يجد البيت الأبيض نفسه مضطرًا إلى مضاعفة خطاب الطمأنة للحلفاء، فيما يراقب المستثمرون والأسواق المالية بحذر، خشية أن يتحول هذا الاستقطاب السياسي إلى مصدر تقلب في السياسات الاقتصادية والتجارية الدولية.

بهذا المعنى، فإن الأزمة لا تُختزل في صراع حزبي محلي، بل تكشف عن اختلال أوسع في منظومة القيادة الأميركية العالمية، وتُذكّر بأن السياسة الداخلية الأميركية باتت عاملًا حاسمًا في تشكيل البيئة الاستراتيجية الدولية، ربما بنفس القدر الذي تلعبه قرارات البيت الأبيض أو وزارة الخارجية.

سادساً- ما مستقبل البنية السياسية الأمريكية؟

تكشف الأزمة الحالية في واشنطن عن مشهد متشابك يتداخل فيه البعد الداخلي مع الدستوري، وينعكس في النهاية على البيئة الإقليمية والدولية، بما يجعل من الصعب التعامل معها كأزمة مؤقتة أو عابرة. فعلى المستوى الداخلي، أظهرت تصريحات فانس وما تلاها من سجال حزبي حاد هشاشة الاستقطاب السياسي الأميركي، حيث بات الخطاب الحزبي يميل أكثر إلى تأجيج المخاوف بدل طمأنة الرأي العام، وهو ما يقوّض الشرعية الاجتماعية للنظام السياسي. أما على المستوى الدستوري والمؤسسي، فإن تلويح الجمهوريين بالخيار النووي يعكس انتقال الأزمة من خلاف سياسي إلى اختبار لقواعد اللعبة ذاتها، بما قد يفتح الباب أمام إعادة تعريف الأعراف التي قامت عليها تقاليد الكونغرس لقرن كامل.

هذه الارتدادات الداخلية لا تبقى حبيسة المجال الوطني، بل تترجم إلى ارتباك خارجي في صورة الولايات المتحدة كقوة قائدة للنظام الدولي. فالحلفاء ينظرون بعين القلق إلى مدى قدرة واشنطن على الالتزام طويل المدى بتعهداتها، فيما الخصوم يستغلون الانقسامات الداخلية لإضعاف الهيبة الأميركية وتشويه نموذجها الديمقراطي. وبهذا المعنى، تتحول الأزمة الأميركية إلى عنصر متغير في المعادلة الاستراتيجية العالمية، حيث يرتبط مستقبل الاستقرار في ملفات كأوكرانيا والشرق الأوسط بمآلات الصراع الحزبي في الكونغرس والبيت الأبيض.

استشرافيًا، يمكن القول إن استمرار هذا النمط من الاستقطاب سيجعل السياسة الأميركية أكثر تقلبًا وأقل قابلية للتنبؤ، بما يفتح المجال أمام سيناريوهين رئيسيين: الأول أن تؤدي الصدمات المتكررة إلى مراجعة داخلية تعيد ترميم الأعراف الدستورية والبحث عن تسويات حزبية تعيد التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو سيناريو صعب لكنه غير مستحيل في ظل تقاليد راسخة. أما السيناريو الثاني، فهو أن ينزلق النظام إلى مزيد من تآكل الأعراف وتسييس المؤسسات، وهو ما سيعمّق الشلل الداخلي ويعزز من نزعة الانكفاء الدولي، بما يترك فراغًا تتسابق قوى أخرى لملئه.

بهذا المعنى، لا تبدو الأزمة مجرد خلاف حزبي أو معركة آنية في الكونغرس، بل هي مرآة لتحولات أعمق في الديمقراطية الأميركية وفي موقعها العالمي، ما يجعل متابعة مساراتها ضرورة لفهم ليس فقط مستقبل السياسة الأميركية، بل مستقبل النظام الدولي بأسره.

 

تم نسخ الرابط