الدم كطقس مقدس: كيف تَحوَّل العنف إلى عبادة في الأيديولوجيات الصهيونية والنازية؟

في خضم النزاعات المسلحة، غالبًا ما تُستخدم الأيديولوجيات الدينية والقومية لتبرير أعمال العنف والقتل الجماعي. في السياق الإسرائيلي، برزت تصريحات دينية من حاخامات بارزين تُضفي شرعية دينية على العمليات العسكرية في غزة، معتبرةً إياها حروبًا مقدسة تهدف إلى تحقيق "الخلاص" وتحرير الشعب اليهودي من "الأخلاق الكونية" التي تُعتبر عائقًا أمام تحقيق الرسالة الإلهية.
هذا التوجه يثير تساؤلات حول التشابهات المحتملة بين هذه التبريرات الدينية وتلك التي استخدمها النظام النازي بقيادة أدولف هتلر لتبرير الهولوكوست، حيث استُخدمت الأيديولوجيات القومية والتبريرات الدينية لتصوير الإبادة الجماعية كضرورة لتحقيق أهداف سامية.
أولاً- التبريرات الدينية اليهودية للمجازر في غزة
في السنوات الأخيرة، شهدت الساحة الإسرائيلية تصاعدًا في الخطابات الدينية التي تُضفي شرعية على العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة. يُعتبر الحاخام يجال ليفينشتاين من أبرز الشخصيات التي قدمت تبريرات دينية لسفك الدماء، حيث يرى أن الحرب ضد الفلسطينيين ليست مجرد صراع سياسي، بل هي حرب مقدسة تهدف إلى تحرير الشعب اليهودي من القيود الأخلاقية العالمية.
يُبرز ليفينشتاين في كتابه "صاحب الحروب – مُنبت الخلاص"، أن التعامل مع مشاعر الذنب الناتجة عن قتل المدنيين الفلسطينيين يتم عبر تحويل النظرة إلى العدو ككيان مقدس، مما يجعل التردد في القتل عقبة روحية يجب تجاوزها لبناء "مقاتل نقي" يتخطى الضمير الإنساني العادي.
هذا التوجه لا يقتصر على ليفينشتاين فحسب، بل يتبناه حاخامات آخرون مثل الحاخام إلياهو مالي، الذي دعا إلى اتباع مبدأ "لا تُحيِ أي نفس" ضد سكان غزة، معتبرًا أن النساء والأطفال ليسوا مستثنين من هذا الأمر، حيث يُنظر إليهم كأعداء محتملين في المستقبل.
هذه التصريحات تُظهر تحولًا في الخطاب الديني اليهودي نحو تبرير العنف والإبادة الجماعية كوسيلة لتحقيق أهداف دينية وقومية.
ثانياً- النازية والهولوكوست: تبرير الوحشية عبر "الواجب" و"النقاء"
على الجانب الآخر، استخدم النظام النازي بقيادة أدولف هتلر أيديولوجيات قومية وتبريرات دينية لتبرير الإبادة الجماعية لليهود وغير اليهود خلال الحرب العالمية الثانية.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو خطاب 1943م لهاينريش هيملر، قائد قوات الوحدة الوقائية في ألمانيا النازية "إس إس"– والذي أطلق برنامج يهدف إلى إنجاب أطفال مثاليين "آريين" من وجهة النظر النازية- حيث أشار إلى "فصل صعب جدًا" واجه رجاله – التحدي في إبادة الشعب اليهودي. وفي هذا الشأن قال جملته المشؤومة: "معظمكم يعرف معنى أن ترى 100 جثة مطروحة معًا، أو 500 أو 1,000. أن تصمدوا في ذلك، ومع ذلك... تبقوا شرفاء، هذا ما صقلنا. هذا صفحة مجيدة في تاريخنا".
هذا الخطاب يُظهر كيف تم استخدام الأيديولوجيا لتبرير القتل الجماعي وتصويره كواجب أخلاقي ووطني.
هذه الكلمات، رغم اختلاف سياقها، تشترك مع مواعظ ليفينشتاين في كونها تقنيات للتعامل مع الشعور بالذنب الإنساني.
وعلى هذا الصعيد، تُعيدنا أقوال الفيلسوفة حنة آرنت إلى فهم عميق لطبيعة هذه الآليات، حيث أوضحت آرنت أن التحدي الذي واجه آلة الإبادة النازية لم يكن في إطلاق العنان للوحشية، بل في "تحييد الغضب الحيواني الذي يستيقظ في كل إنسان طبيعي إزاء الألم الجسدي"، وقد تحقق ذلك عبر "نزع الإنسانية عن اليهود" وتأكيد "الرسالة السامية للشعب الألماني".
هذا التبرير الأيديولوجي، الذي يرفع الدولة أو العرق أو الرسالة الإلهية فوق المعايير الإنسانية، يخدم الغرض نفسه: جعل الأفعال المروعة ممكنة عبر إعادة تعريف الأخلاق وإخضاعها لغايات أسمى.
ثالثاً- التشابهات بين التبريرات الدينية اليهودية والنازية
تبرز المقارنة بين الخطابين أوجه تشابه أساسية في استراتيجيات التبرير الأيديولوجي للعنف الشامل:
- تضخيم الذات وتفوق الأمة/الشعب: كلا الأيديولوجيتين، الصهيونية الدينية والنازية، تعتمدان على مفهوم التفوق العرقي أو الديني. ففي حين ترى الصهيونية الدينية في الشعب اليهودي "شعب الله المختار" حامل "رسالة تاريخية إلهية"، ترى النازية في العرق الآري "العرق الأعلى" صاحب "مصير تاريخي". هذا الشعور بالتفوق يضع أتباع كل أيديولوجية في مرتبة أعلى من الآخرين، مما يسهل تبرير اضطهادهم أو إبادتهم.
- قدسية العنف والدم: يحول الحاخام ليفينشتاين الحرب وسفك الدماء إلى وصية أو واجب مقدس، بينما كانت النازية تعتبر العنف، وخاصة العنف العسكري والعنصري، أداة أساسية لتحقيق "النقاء" و"الاستمرارية" العرقية. في كلتا الحالتين، يتم تجريد العنف من صفته المأساوية وتحويله إلى فضيلة ضرورية لتحقيق هدف أسمى.
- التبرير الأخلاقي الجديد ونفي الإنسانية: كلا المنهجين يقدمان "أخلاقًا جديدة" أو "تفسيرات جديدة" تسمح بتجاوز المعايير الإنسانية التقليدية. ليفينشتاين يرى أن "الأخلاق الكونية" مناقضة للأخلاق اليهودية، بينما فصل النازيون بين "الأخلاق الآرية" و"الأخلاق اليهودية" باعتبارها "نجسة" و"معادية للحياة". هذه الفواصل الأيديولوجية تبرر نزع الإنسانية عن الآخر، مما يجعله هدفًا مشروعًا للعنف.
- آليات التعامل مع الذنب: كما ذكرنا، يهدف كل من ليفينشتاين وهيملر إلى تزويد المقاتلين بآليات للتعامل مع الشعور بالذنب. هذا يتضمن خلق مسافة عاطفية، وإعادة تأطير الأفعال، وتصوير العدو بطريقة تُجرده من إنسانيته.
- التعاون التاريخي المزعوم والتشابه المنهجي: يشير النص إلى ادعاءات مفادها أن الصهيونية والنازية، كونهما من نتاج الحضارة الغربية، قد تعاونتا تاريخياً، وأن الأيديولوجيتين تشتركان في استراتيجية "القتل أو الترحيل" للأشخاص المستقرين في أوطانهم. كما يُشار إلى أن الفكر الصهيوني، مثل الفكر النازي، يستمد أيديولوجيته من قيم مادية تفضيلية للبقاء للأقوى.
رابعاً- تجسيدات معاصرة تربط الصهيونية بالنازية
تتجلى التبعات الخطيرة لهذه الخطابات في الأحداث المعاصرة، ففي روما، في مايو 2025، عُرض رسم جرافيتي صادم بعنوان "الحل النهائي" يصور قبلة بين رئيس وزراء ااحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والزعيم النازي أدولف هتلر.
وصفت مصممة الرسم، لايكا، هدفها بأنه "إثارة صدمة" للإشارة إلى "عملية ممنهجة لتدمير الشعب الفلسطيني"، واصفة عملية "عربات جدعون" بأنها "تطهير عرقي" ومدعية أن الجيش الإسرائيلي يجوع السكان ويقتل الأطفال، وأن المرحلة التالية ستكون طرد الناجين.
هذه المقارنة، رغم قسوتها، تعكس قلقًا عميقًا لدى البعض من استخدام خطاب يبرر العنف الشديد، وربط ذلك بتاريخ الهولوكوست.
ويشير المؤرخون وعلماء الاجتماع مثل زيجمونت باومان وموشيه تسيمرمان إلى تطابق ممارسات إسرائيلية مع ممارسات نازية، مثل بناء جدار الفصل العنصري الذي يشبه جدران وارسو.
وحتى فيلسوف يهودي بارز مثل زيجمونت باومان انتقد السياسة الإسرائيلية واعتبر توظيف الهولوكوست لشرعنة الجرائم ضد الفلسطينيين مدانًا.
ويرى المفكرون مثل روجيه جارودي أن الصهيونية، كالنازية، هي ابنة الاستعمار والقومية الأوروبية.
هذه المقارنات، وإن كانت مثيرة للجدل، تسلط الضوء على المخاطر الكامنة في أي أيديولوجيا ترى في العنف أداة ضرورية لتحقيق رؤيتها، وتضفي عليه قدسية، وتُبرر نزع الإنسانية عن الآخر، إنها دعوة لإعادة النظر في الأسس الأخلاقية واللاهوتية التي قد تُسخَّر لتبرير الفظائع، وتذكير بأن تاريخ الإبادات الجماعية غالبًا ما يبدأ بخطاب يعيد تعريف الأخلاق ويُقدّس العنف باسم رسالة عليا.
وفي الختام، تقدم مقارنة الخطابات الدينية والتبريرات الأيديولوجية في حرب غزة، كما يمثلها الحاخام ليفينشتاين، مع الخطاب النازي الذي أفضى إلى الهولوكوست، رؤية محذرة.
إنها تكشف عن أوجه تشابه مقلقة في البنية الأيديولوجية، وفي استخدام اللغة لإضفاء الشرعية على العنف، وفي الآليات النفسية التي تهدف إلى تجاوز الشعور بالذنب.
كلا المسارين، رغم اختلاف السياقات التاريخية، يعكسان استخدامًا مشوهًا للدين أو القومية لتبرير أعمال تتجاوز المعايير الإنسانية الأساسية.
إن فهم هذه المقارنات، والتعامل معها بحذر، أمر ضروري لتجنب تكرار الفظائع التاريخية، وللتأكيد على القيم الإنسانية المشتركة التي يجب أن تبقى فوق أي اعتبارات أيديولوجية أو دينية.