آلية الزناد "السناب-باك " وخروج إيران من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية

تطرح الحالة الإيرانية في ملفها النووي واحدة من أعقد الإشكاليات القانونية والسياسية في النظام الدولي المعاصر، حيث يتقاطع البعد القانوني لمعاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) مع الأبعاد الإجرائية والسياسية لقرار مجلس الأمن رقم 2231 وآلية "السناب-باك". فمن ناحية، تسعى الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة) إلى تفعيل هذه الآلية استنادًا إلى حقوقها كأطراف مشاركة في خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، ومن ناحية أخرى تجادل إيران بأن هذه الخطوة تفتقر إلى المشروعية بحكم إخلال الأوروبيين بالتزاماتهم، بما يفرغ مفهوم "المشاركة بحسن نية" من مضمونه. ويزداد المشهد تعقيدًا مع احتمالات انسحاب إيران من معاهدة عدم الانتشار النووي وما يترتب عليه من آثار قانونية وإجرائية، الأمر الذي يضع النظام الدولي أمام اختبار صعب يتعلق بمدى قدرته على التعامل مع التحديات المتجددة لملف الانتشار النووي.
أولاً- الإطار القانوني لتفعيل الترويكا الأوروبية لآلية السناب-باك
يستند تفعيل آلية "السناب-باك" من قِبل الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة) إلى قرار مجلس الأمن رقم 2231 لعام 2015، الذي صادق على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA). وقد صدر هذا القرار استنادًا إلى المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، ووضع إطارًا قانونيًا محددًا ينصّ على أنه في حال قيام أي دولة مشاركة في الخطة بإخطار مجلس الأمن بوجود حالة "عدم امتثال جوهري"، يتعيّن على المجلس أن يصوّت خلال ثلاثين يومًا على مشروع قرار يُبقي على رفع العقوبات. وإذا لم يُتخذ هذا القرار ضمن المهلة الزمنية، فإن العقوبات الواردة في القرارات السابقة للمجلس تُعاد تلقائيًا وتصبح نافذة على إيران."
تعتبر فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة "دولًا مشاركة" بحكم كونها أطرافًا في خطة العمل الشاملة المشتركة؛ لذا يملك أي منها منفردًا حق بدء الآلية بإخطار مجلس الأمن من دون حاجة إلى موافقة بقية الأطراف. هذا الحق مستمد مباشرة من صياغة القرار 2231 التي ربطت تفعيل الإعادة التلقائية للعقوبات بمجرد تسلّم الإخطار وعدم اعتماد قرار يمدد رفعها.
إجرائيًا، تنص الفقرة (36) من خطة العمل الشاملة المشتركة على مسار محدد لتسوية الخلافات، يبدأ بمحاولة معالجة المسألة داخل أطر الاتفاق نفسه. وإذا اعتبر الطرف المشتكي أن حالة عدم الامتثال تُعد "جسيمة" ولم تُحل الإشكالية عبر القنوات الداخلية، فإنه يملك حق إحالة الموضوع إلى مجلس الأمن، ليتحرك حينها المسار المرتبط بالقرار 2231 الملزم. وقد سبق للترويكا الأوروبية أن لجأت إلى تفعيل هذه الآلية لتسوية النزاعات عام 2020، تمهيدًا لاتخاذ خطوات لاحقة.
تعترض إيران على هذا النهج وتجادل في مشروعيته أو في استنفاد آلية النزاع سلفًا، لكن التفسير القانوني السائد دوليًا هو أن حقّ التفعيل قائم متى اعتقدت دولةٌ مشاركة بوجود عدم امتثال جوهري، وأن أثره التلقائي يتمثل في عودة العقوبات خلال ثلاثين يومًا ما لم يعتمد المجلس قرارًا يُبقي تخفيفها.
ثانيًا- الطرح الإيراني بشأن عدم مشروعية التفعيل الأوروبي لآلية السناب-باك
ترى إيران أن خطوة الترويكا الأوروبية غير مشروعة لأنها صادرة عن أطراف لم تفِ بالتزاماتها في الاتفاق النووي، خصوصًا ما يتصل برفع القيود في "يوم الانتقال" Transition Day (18 أكتوبر 2023). وبحسب الطرح الإيراني، إبقاء الأوروبيين لعقوباتٍ وتدابير مقيِّدة بعد هذا التاريخ يُعدّ إخلالًا جوهريًا بخطة العمل الشاملة المشتركة وقرار مجلس الأمن 2231، فلا يسوغ لمن أخلّ أن يُفعّل آلية إنفاذ ضد الطرف المتضرر.
انطلاقًا من ذلك، تجادل طهران أن فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة قد فقدت عمليًا صفة "الدولة المشاركة"، أو على الأقل صفة "المشارك بحسن نية"، وهي الصفة التي تُعدّ شرطًا جوهريًا للأهلية الإجرائية اللازمة لتفعيل آلية "السناب-باك". ومن ثم، فإن غياب هذه الصفة أو تشوّهها نتيجة سوء النية، يؤدي – وفقًا للمنطق الإيراني – إلى سقوط حقّ دول الترويكا الأوروبية (E3) في إخطار مجلس الأمن بوجود حالة "عدم امتثال جوهري".
وتضيف إيران أن مسار تسوية النزاعات المنصوص عليه في الفقرة 36 من الـJCPOA قد فُعِّل واستُنفد بين 2018 و2020، وأن الأوروبيين لم ينفذوا التعهدات المقابلة خلال تلك المرحلة. وعليه، فإن العودة اليوم لاستخدام إخطار "السناب-باك" تُعد—في الرؤية الإيرانية—إساءةً لاستعمال الإجراءات بعد استنفاد المسار الداخلي للاتفاق.
كما تستند طهران إلى مبدأ "اليد غير النظيفة" ومنطق المعاملة بالمثل المنصوص عليه داخل الاتفاق ذاته؛ إذ تعتبر أن الخطوات النووية التي باشرت بها منذ عام 2019 ليست خرقًا، بل "إجراءات تعويضية" مشروعة وفقًا للفقرتين 26 و36، جاءت ردًا على انسحاب الولايات المتحدة وعجز الدول الأوروبية عن توفير المنافع الاقتصادية المترتبة على رفع العقوبات. وبناءً على ذلك، ترى إيران أنه لا يجوز للطرف المُخِلّ بالتزاماته أن يستفيد من آلية العقوبات التلقائية ضد الطرف المتضرر."
وأخيرًا، تنتقد إيران توقيت اللجوء إلى "السناب-باك" قبيل "يوم الإنهاء" Termination Day للقرار 2231 (18 أكتوبر 2025)، وتعتبر أن ذلك يُفرغ الجدول الزمني المقصود من مضمونه ويلتف على غاية إنهاء القيود تدريجيًا، إذ تُستعاد العقوبات آليًا في اللحظة الأخيرة بدلًا من إنهائها.
ثالثًا- الضوابط القانونية والإجرائية للانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية
القاعدة الحاكمة للانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) واردة في المادة (10/1) والتي تجيز لكل دولةٍ طرف، ممارسةً لسيادتها، أن تنسحب إذا قررت أن أحداثًا استثنائية متصلة بموضوع المعاهدة عرضت مصالحها العليا للخطر. ويجب عليها أن تُخطر جميع الأطراف ومجلس الأمن قبل ثلاثة أشهر، على أن يتضمن الإخطار بيانًا بهذه الأحداث التي تعدها سببًا للانسحاب. الغاية من مهلة الأشهر الثلاثة هي إتاحة مساحة دبلوماسية وقانونية للتعامل مع التداعيات المحتملة على السلم والأمن الدوليين.
إجرائيًا، تُرسل الإخطارات إلى "حكومات الإيداع" الثلاث (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا) لتقوم بتعميمها على الأطراف كافة وعلى مجلس الأمن. ولا يغيِّر الانسحاب من طبيعة الالتزامات إلا من تاريخ نفاذه؛ فوفقًا لقانون المعاهدات (اتفاقية فيينا 1969)، يُبرِّئ الانسحاب ذمّة الدولة من الالتزامات المستقبلية، لكنه لا يمحو أي مسؤولية عن مخالفات وقعت قبل تاريخ نفاذه ولا ينتقص من الحقوق أو المراكز القانونية التي نشأت بالفعل.
فيما يتعلق بضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تُلزم المادة الثالثة من المعاهدة الدولَ غير الحائزة للسلاح النووي بإبرام اتفاق ضمانات شاملة على أساس الوثيقة النموذجية INFCIRC/153. وهذه الاتفاقات ترتبط بعضوية الدولة في الـ NPT، ومن ثمّ تنتهي من حيث المبدأ عند نفاذ الانسحاب، مع احتمال استمرار أي ترتيبات ضمانات أخرى مستقلة (مثل اتفاقات المنشآت وفق INFCIRC/66) إن كانت قائمة.
وتُظهر الممارسة الدولية أن إخطار الانسحاب قد يكون محل تفاعل من مجلس الأمن أو المجتمع الدولي. الحالة الأبرز هي كوريا الشمالية، حيث دعاها المجلس عام 1993 إلى العدول عن الانسحاب والوفاء بالتزاماتها، ما يوضح الدور المقصود لمهلة الإخطار كنافذة للنظر في تداعيات الانسحاب على الأمن الإقليمي والدولي.
وأخيرًا، يجيز قانون المعاهدات للدولة المتخِذة قرار الانسحاب أن تعدل عنه قبل دخوله حيز النفاذ، أي خلال مهلة الأشهر الثلاثة، ما يمنحها مساحة للمراجعة السياسية والقانونية قبل اكتمال الأثر القانوني للانسحاب. بهذه الضوابط يتحدد إطار الخروج المشروع من المعاهدة دون إخلال بجوهرها أو بمقاصده.
رابعًا- المسار القانوني والإجرائي لانسحاب إيران من معاهدة الـNPT
تنطلق القاعدة من نصّ المعاهدة نفسه؛ إذ تمنح المادة (10/1) من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أيَّ دولةٍ طرف حقَّ الانسحاب إذا قرّرت، بمقتضى سيادتها، أن "أحداثًا استثنائية متصلة بموضوع المعاهدة" عرّضت "مصالحها العليا" للخطر. ويجب توجيه إخطارٍ كتابي إلى جميع الأطراف وإلى مجلس الأمن قبل ثلاثة أشهر، متضمّنًا بيان هذه الأحداث. لا يتطلب الانسحاب موافقة أحد، ويصبح نافذًا بانقضاء المهلة.
إجرائيًا على المستوى الدولي، يُرسَل الإخطار إلى "حكومات الإيداع" الثلاث (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا) لتعميمه على الأطراف، ويُخطر مجلس الأمن بالتوازي. صُمِّمت مهلة الأشهر الثلاثة لتتيح للمجلس النظر في التداعيات المحتملة على السلم والأمن، وقد استُخدمت هذه النافذة في سوابق معروفة كحالة كوريا الشمالية.
إجرائيًا على المستوى الدستوري داخل إيران، يمرّ قرار بهذا الحجم عبر مؤسسات الاختصاص: يضع “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإطار والسياسة، وتشارك الحكومة في الإحالة والتنفيذ، ويستلزم الأمر موافقة مجلس الشورى الإسلامي وفق المادة 77، مع التوقيع من رئيس الجمهورية وفق المادة 125، وتدقيق مجلس صيانة الدستور. وتصبح قرارات المجلس الأعلى نافذة بعد تصديق القائد وفق المادة 176.
فيما يخص الضمانات، تخضع إيران لاتفاق ضماناتٍ شامل من طراز INFCIRC/153 (نُشر كـ INFCIRC/214 لإيران) مرتبط بعضويتها في الـ NPT، وينتهي من حيث المبدأ عند نفاذ الانسحاب. أمّا البروتوكول الإضافي، والذي يمنح الوكالة الدولية للطاقة الذرية عطي الوكالة سلطات أوسع للتفتيش المفاجئ والوصول لمواقع إضافية، كانت إيران قد وقّعت عليه سنة 2003 وطبّقته بشكل مؤقت، لكنها لم تصادق عليه رسميًا، ومن ثم فهو غير نافذ في إيران، وقد عُلِّق تطبيقه سابقًا، فيما قد تستمرّ أي ترتيبات ضماناتٍ مستقلة قائمة بذاتها (مثل اتفاقات منشآت وفق INFCIRC/66) إن وُجدت.
من زاوية قانون المعاهدات، يُبرِّئ الانسحابُ ذمّة الدولة من الالتزامات المستقبلية ابتداءً من تاريخ نفاذه، لكنه لا يمحو مسؤولية المخالفات السابقة، ولا يمسّ الحقوق أو المراكز القانونية التي نشأت قبل ذلك التاريخ. وخلال مهلة الأشهر الثلاثة يمكن للدولة أن تُراجع قرارها وتسحب الإخطار قبل أن ينتج أثره.
خامسًا- المقارنة بين حالتي العراق وكوريا الشمالية وانعكاساتها على وضع إيران
تجربة العراق عام 1990–1991 كانت إنفاذًا قسريًا جماعيًا تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. بعد غزو الكويت، فرض مجلس الأمن نظام عقوبات اقتصادية شامل بقرار 661 (1990)، ثم ربط رفعها بشروط وقف إطلاق النار ونزع أسلحة الدمار الشامل في القرار 687 (1991). لم تكن العقوبات معزولة، بل جاءت ضمن "هندسة" قانونية لإلزام العراق بنزع السلاح والتعاون مع التفتيش الدولي.
ترتّب على ذلك إطار تفتيش ومراقبة معمّق؛ قرارات لاحقة مثل 707 و715 (1991) أنشأت منظومات تحقيق ورقابة (يونسكوم/الوكالة الدولية للطاقة الذرية) بصلاحيات واسعة ومستمرة. إذًا حالة العراق تمحورت حول تدابير إنفاذ أملاها مجلس الأمن، مع رقابة أممية مباشرة ومتصاعدة إلى أن يثبت الامتثال.
في المقابل، حالة كوريا الشمالية انطلقت من "حقّ معاهدي" أحادي" بموجب المادة 10/1 من معاهدة عدم الانتشار التي تتيح الانسحاب بإخطار مسبق ثلاثة أشهر يبيّن "الأحداث الاستثنائية" المبرّرة. أعلنت بيونجيانج نيتها الانسحاب في 1993، وحثّها مجلس الأمن على العدول، لكنها استأنفت الانسحاب في 2003. لاحقًا، وبعد اختبارات نووية، تدخّل مجلس الأمن بقرارات عقوبات (بدءًا من 1718 في 2006). هنا بدأ المسار كخروج من المعاهدة ثم تحوّل إلى مسار قسري أممي بسبب تهديد السلم والأمن.
بالنسبة إلى إيران، فإن الوضع يكتسب طابعًا هجينًا يميّزه عن حالتي العراق وكوريا الشمالية. فهي لا تزال عضوًا في معاهدة عدم الانتشار النووي وخاضعة لاتفاق الضمانات الشاملة (INFCIRC/214). وفي الوقت ذاته، يرتبط وضعها بقرار مجلس الأمن رقم 2231 (2015) الذي صادق على خطة العمل الشاملة المشتركة، ونصّ على آلية "السناب-باك"، التي تفضي إلى إعادة العمل تلقائيًا بقرارات العقوبات السابقة في حال أُبلغ المجلس بوجود "عدم امتثال جوهري"، ولم يصدر خلال ثلاثين يومًا قرار يمدد تخفيف العقوبات. وهكذا، فإن الأداة المعتمدة ذات طابع أممي تستند إلى قرار صادر عن مجلس الأمن، لكن تفعيلها الإجرائي مرتبط ببنود اتفاق تعاقدي بين الأطراف".
من زاوية الضمانات، فالعراق خضع لتفتيش إلزامي صمّمه مجلس الأمن نفسه بوصفه جزءًا من شروط وقف إطلاق النار. أما كوريا الشمالية فانتهاء عضويتها في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أنهى من حيث المبدأ سريان اتفاق الضمانات الشاملة لديها، قبل أن تنتقل إلى عقوبات الفصل السابع. إيران، على العكس، لا تزال تحت مظلة ضمانات الوكالة الدولية لطاقة الذرية بحكم بقائها طرفًا في المعاهدة، ما يمنح المجتمع الدولي أدوات رقابية وقانونية قائمة دون لزوم الخروج من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
وبالتالي، يمكن القول؛ بأن عقوبات العراق 1991 كانت إنفاذًا قسريًا مباشرًا مع نظام نزع سلاح ورقابة أممية؛ انسحاب كوريا الشمالية كان ممارسةً لحقٍّ معاهدي تبعته عقوبات أممية لاحقة؛ أمّا إيران فبين النموذجين ليست في مسار خروج من المعاهدة، بل أمام آلية سناب-باك مُكرَّسة بقرار دولي، مع استمرار نظام الضمانات، وهو ما يُنتج إطارًا قانونيًا وإجرائيًا مختلفًا عن كلٍّ من العراق وكوريا الشمالية.
سادسًا- المسؤولية القانونية بين إيران والغرب: التزامات متبادلة وانتهاكات متقابلة
تُثير مسألة المسؤولية الدولية في حالة إيران إشكالية مركبة، فهي لا تتعلق فقط بسلوك إيران داخل معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وإنما تمتد أيضًا إلى مسؤولية الأطراف الأخرى، وفي مقدمتها الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة، التي كان لها دور مباشر في تقويض الالتزامات المتبادلة داخل الاتفاق النووي.
فعلى صعيد إيران، إذا استمرت داخل المعاهدة، فإنها تظل خاضعة لالتزامات واضحة تتعلق بعدم السعي لامتلاك أو تطوير سلاح نووي، والقبول برقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومن ثم فإن أي إخلال بهذه الالتزامات يمكن أن يرقى إلى مستوى الانتهاك، ويترتب عليه مسؤولية دولية تستوجب التدخل من جانب المجتمع الدولي عبر العقوبات أو التدابير المضادة. أما إذا قررت الانسحاب من المعاهدة، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا؛ إذ إن المادة العاشرة من معاهدة حظر الانتشار تتيح هذا الحق شريطة تقديم إخطار مسبق لمجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية مع بيان "الأسباب الاستثنائية" التي تهدد المصالح العليا للدولة. وبذلك فإن الانسحاب في حد ذاته لا يُعد غير قانوني، غير أن ما قد يترتب عليه من سلوكيات – كاستغلال الانسحاب كغطاء لتطوير برنامج عسكري نووي – قد يشكل أساسًا لتحميل إيران المسؤولية عن تهديد السلم والأمن الدوليين.
أما من جانب الترويكا الأوروبية والولايات المتحدة، فإن إيران تجادل بأن الطرف المقابل هو الذي أخل بالتزاماته أولًا، بدءًا من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي (JCPOA) عام 2018، مرورًا بعدم وفاء الأطراف الأوروبية بوعودها الاقتصادية. فإذا صحّ هذا الادعاء، فإن إيران قد تجد في ذلك مبررًا قانونيًا يتيح لها اتخاذ تدابير مضادة، قد تصل إلى التلويح بالانسحاب من المعاهدة نفسها. ويستند هذا المنطق إلى مبادئ راسخة في القانون الدولي، مثل مبدأ المعاملة بالمثل، أو قاعدة "انتفاء السبب" التي تسمح للدولة بالتحلل من التزاماتها إذا ما أخل الطرف الآخر بالتزاماته الأساسية.
وفي ضوء ذلك، تبرز معضلة قانونية دقيقة؛ هل يجوز لإيران أن تحتج بخروقات الآخرين لتبرير خروجها من معاهدة حظر الانتشار، أم أن التزامات المعاهدة تُعتبر التزامات مستقلة لا تسقط إلا وفقًا لإجراءاتها الرسمية؟ هذا السؤال يوضح أن المسؤولية الدولية في الحالة الإيرانية ليست أحادية الجانب، بل هي مسؤولية متبادلة ومتداخلة، تتوزع بين إيران التي قد تُتهم باستخدام الانسحاب كوسيلة لامتلاك قدرات عسكرية محظورة، وبين الغرب الذي يُتهم بزعزعة أسس الاتفاق النووي وتقويض الإطار التعاقدي الذي كان من المفترض أن يحكم سلوك الطرفين.
سابعًا- مستقبل النظام الدولي لعدم الانتشار النووي في ضوء الحالة الإيرانية
يُعتبر النظام الدولي لعدم الانتشار النووي، والمتمثل أساسًا في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، أحد الركائز الأساسية للأمن الجماعي منذ دخوله حيز النفاذ عام 1970. وعلى الرغم من التحديات التي واجهها خلال العقود الماضية، فإنه ظل الإطار الأكثر شمولًا لتنظيم العلاقة بين الدول المالكة للسلاح النووي وتلك غير المالكة له، ولمنع توسع النادي النووي عالميًا. غير أن حالة إيران واحتمال خروجها من المعاهدة تطرح تساؤلات عميقة حول قدرة هذا النظام على الصمود أمام التغيرات الجيوسياسية المتسارعة.
إذا أقدمت إيران على الانسحاب رسميًا، فإن ذلك قد يفتح الباب أمام إعادة النظر في التزامات عدد من الدول الأخرى التي تنظر بقلق إلى البيئة الأمنية المحيطة بها. فالانسحاب الإيراني، إذا ترافق مع استمرار برنامج نووي متقدم، يمكن أن يشجع قوى إقليمية مثل السعودية أو تركيا أو حتى مصر على التفكير في خيارات مشابهة، سواء عبر تطوير قدرات نووية مستقلة أو من خلال البحث عن ترتيبات أمنية بديلة. وبذلك يتحول الخروج الإيراني إلى سابقة يمكن أن تُضعف قاعدة الالتزام الطوعي التي يقوم عليها نظام عدم الانتشار.
من جهة أخرى، قد يؤدي انسحاب إيران إلى إضعاف الثقة في قدرة المعاهدة على تلبية مصالح الدول الأعضاء، إذ يُنظر إليها على أنها ترتب التزامات صارمة على الدول غير النووية، بينما تمنح الدول النووية الخمس امتيازات دائمة من دون خطوات جدية نحو نزع السلاح. وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن "ازدواجية المعايير" داخل النظام الدولي أكثر حدة، بما يعزز من الخطاب الداعي إلى إصلاح أو حتى إعادة صياغة قواعد عدم الانتشار.
لكن في المقابل، قد يكون لانسحاب إيران أثر عكسي يتمثل في دفع المجتمع الدولي، وبخاصة القوى الكبرى، إلى تعزيز نظام عدم الانتشار بدلًا من تركه يتآكل. فمن المتوقع أن تسعى الولايات المتحدة وأوروبا ومعهما روسيا والصين إلى إعادة التأكيد على مركزية الـ NPT، وربما التفكير في آليات إضافية لتقييد الانسحاب أو فرض عقوبات تلقائية على الدول المنسحبة. وهو ما قد يقود إلى تطور جديد في القانون الدولي يتمثل في تقييد "الحق في الانسحاب" باعتباره تهديدًا مباشرًا للسلم والأمن الدوليين.
وفي المحصلة، فإن مستقبل النظام الدولي لعدم الانتشار النووي سيتوقف بدرجة كبيرة على كيفية إدارة المجتمع الدولي للحالة الإيرانية. فإذا تعامل معها بمرونة أو تراخٍ، فقد يشجع ذلك مزيدًا من الدول على تحدي النظام القائم. أما إذا جرى التعامل معها بصرامة قانونية ودبلوماسية، فقد يتحول التهديد إلى فرصة لتجديد شرعية المعاهدة وتعزيز فعاليتها. وبذلك تظل إيران اختبارًا حقيقيًا لمدى صلابة النظام الدولي الذي استمر أكثر من نصف قرن في مواجهة إغراءات السلاح النووي وضغوط التنافس بين القوى الكبرى.
وختامًا؛ تكشف الحالة الإيرانية أن النظام الدولي لعدم الانتشار النووي يقف عند نقطة انعطاف تاريخية، حيث لم يعد التحدي مقتصرًا على امتثال دولة بعينها، بل بات مرتبطًا بمدى قدرة المعاهدة وآلياتها على الصمود أمام التغيرات الجيوسياسية المتسارعة. فإذا قررت إيران الانسحاب من المعاهدة أو المضي في برنامج نووي متقدم، فإن ذلك قد يُطلق سلسلة من التفاعلات الأمنية في الشرق الأوسط تدفع دولًا مثل السعودية وتركيا ومصر إلى مراجعة خياراتها النووية. في هذه الحالة قد نشهد تحوّل المنطقة إلى واحدة من أكثر بؤر العالم تهديدًا للنظام الدولي لعدم الانتشار.
وعلى الجانب الآخر، قد يستغل المجتمع الدولي هذه الأزمة لإعادة التفكير في ثغرات النظام القائم، سواء عبر تقييد حق الانسحاب، أو بإنشاء آليات إنفاذ أكثر إلزامية، أو حتى إعادة التوازن بين التزامات الدول النووية وغير النووية. بهذا المعنى، فإن الحالة الإيرانية ليست مجرد أزمة عابرة، بل يمكن أن تصبح محفزًا لإعادة صياغة قواعد القانون الدولي النووي بما يتناسب مع واقع القرن الحادي والعشرين.
وبالتالي، فإن مستقبل معاهدة عدم الانتشار النووي لن يُحسم فقط بما ستقرره طهران، وإنما أيضًا بما ستقرره القوى الكبرى والمجتمع الدولي: إما ترك النظام يضعف تدريجيًا أمام الضغوط، أو تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة بنائه على أسس أكثر عدالة وصلابة.