العرض العسكري الصيني: بين حدود القوة ورسائل الردع

شهدت العاصمة الصينية بكين في سبتمبر 2025 واحداً من أكبر العروض العسكرية التي نظمتها الصين في تاريخها الحديث، وذلك بمناسبة مرور ثمانين عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد اختارت القيادة الصينية أن تقيم العرض في ساحة تيانآنمن، التي تحمل دلالة تاريخية ورمزية عميقة في الوعي الوطني الصيني، بما يجعلها نقطة التقاء بين الماضي البطولي والرسالة المستقبلية التي أرادت بكين توجيهها داخلياً وخارجياً. في هذا المشهد، اصطف عشرات الآلاف من الجنود المدربين، ترافقهم مئات الآليات والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي، إلى جانب أسراب الطائرات الحديثة وصواريخ استراتيجية متعددة المديات، في استعراض ضخم للقوة العسكرية لم تشهده المنطقة منذ عقود.
الوقائع الأساسية للعرض
لم يقتصر العرض العسكري الصيني على المعدات التقليدية، بل شمل الكشف العلني لأول مرة عن ما وصفته بكين بـ "الثالوث النووي المكتمل"، أي القدرة على تنفيذ ضربات نووية عبر منصات برية وبحرية وجوية في آن واحد، وهو عنصر جوهري في أي منظومة ردع استراتيجي. فقد ظهر إلى العلن صواريخ باليستية متطورة مثل DF-61 ونسخ معدلة من DF-31BJ، إلى جانب الصواريخ البحرية JL-3 القادرة على الانطلاق من غواصات متطورة، فضلاً عن صواريخ محمولة على منصات جوية عبر قاذفات استراتيجية حديثة. كما حرصت بكين على إبراز أنظمة عسكرية أكثر حداثة، مثل الطائرات المسيرة المرافقة، والتكنولوجيات الفرط صوتية، والأسلحة الليزرية والروبوتية، في رسالة مزدوجة تعكس من ناحية طموحها لتثبيت نفسها كقوة تكنولوجية متقدمة، ومن ناحية أخرى قدرتها على تطوير أدوات عسكرية جديدة قد تغير قواعد اللعبة.
المشهد السياسي لم يقل أهمية عن البعد العسكري؛ إذ جلس على المنصة إلى جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، وهو ما أعطى العرض بعداً جيوسياسياً استثنائياً. لم يكن الأمر مجرد حضور بروتوكولي، بل رسالة واضحة بأن بكين تسعى لتكريس صورة "معسكر بديل" أو "تحالف رمزي" يضع نفسه في مواجهة الغرب، أو على الأقل في موقع مستقل عن المنظومة الغربية التقليدية. بذلك، بدا العرض وكأنه يدمج بين الاحتفال العسكري والرسائل الاستراتيجية، بين استدعاء الماضي التاريخي وتوجيه إنذار للمستقبل.
دلالات مشاهد العرض العسكري
حمل العرض رسائل رمزية مكثفة أرادت القيادة الصينية أن تبعث بها إلى الداخل والخارج على حد سواء، ويمكن تنفنيدها على النحو التالي:
- "ثالوث الردع النووي": الذي ظهر بشكل علني للمرة الأولى، وهو ما يشي بأن الصين لم تعد ترى ضرورة لإخفاء قدراتها النووية، بل باتت تستخدمها كجزء من خطاب الردع المعلن، بهدف رفع كلفة أي محاولة لفرض إرادة عسكرية غربية عليها في أزمات مثل تايوان أو بحر الصين الجنوبي. الإعلان عن هذا الثالوث يغير جوهرياً من حسابات الخصوم، لأنه يعني أن أي هجوم أولي قد يُواجَه برد مدمر عبر منصات متعددة يصعب تحييدها بالكامل.
- الرمزية التاريخية: إذ جاء العرض في ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما أعطى بكين فرصة لتوظيف الذاكرة الوطنية في خدمة مشروعها الراهن. فالمشهد ربط بين "النصر التاريخي على العدوان" وبين "التجدد القومي والنهضة العسكرية"، وهو خطاب يرسخ شرعية الحزب الشيوعي داخلياً، ويمنح القيادة الحالية مشروعية سياسية مضاعفة. بهذا الشكل، لم يكن العرض مجرد مناسبة عسكرية، بل أيضاً عملية إعادة إنتاج للذاكرة الجماعية بما يخدم توجهات الحاضر.
- الجمع بين القوة والبحث عن السلام: حيث أُطلقت الحمائم والبالونات بعد انتهاء العرض في مشهد رمزي واضح. بكين أرادت أن تقول للعالم: "نحن نملك القوة الكافية للدفاع عن أنفسنا، لكننا في الوقت ذاته لا نبحث عن الحرب". هذا التوازن بين استعراض القوة وإظهار النوايا السلمية يعكس براعة في استخدام الرمزية الدبلوماسية، فهو يبعث الطمأنينة إلى بعض الأطراف التي قد تشعر بالقلق من تصاعد القوة الصينية، لكنه في الوقت ذاته يوجه إنذاراً ضمنياً للخصوم بأن تكلفة المواجهة ستكون مرتفعة.
السياقات والتزامنات – لماذا الآن؟
إن اختيار بكين لهذا التوقيت بالذات لإقامة عرض عسكري بهذا الحجم والرسائل الرمزية المصاحبة له، جاء انعكاساً لحسابات استراتيجية دقيقة. فمن جهة، يتزامن العرض مع الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي ذكرى تسمح للصين باستدعاء التاريخ لتثبيت سردية وطنية تقوم على فكرة النصر والتحرر من الاستعمار والعدوان الخارجي، ومن جهة أخرى، يتزامن مع جملة من الأحداث السياسية والدبلوماسية الراهنة التي تعطي العرض بعداً أكبر بكثير من مجرد مناسبة تذكارية.
أولاً، يأتي العرض في لحظة تشهد فيها الصين تصاعداً غير مسبوق في حدة التوترات مع الولايات المتحدة وحلفائها حول ملفات حساسة مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي. فالإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب أعادت خلال العامين الماضيين رفع مستوى التحدي مع بكين، سواء عبر صفقات تسليح نوعية مع تايبيه، أو عبر زيادة الوجود العسكري الأميركي في بحر الصين الجنوبي، أو من خلال تشديد القيود على صادرات التكنولوجيا الدقيقة إلى الشركات الصينية. في هذا السياق، يصبح العرض العسكري بمثابة رد مباشر ورسالة ردع مزدوجة: رسالة إلى الداخل الأميركي والحلفاء مفادها أن الصين تملك القدرات اللازمة لموازنة أي تدخل، ورسالة إلى الداخل الصيني لتأكيد أن القيادة قادرة على حماية "الوحدة القومية" ومنع أي محاولة لفصل تايوان عن الوطن الأم.
ثانياً، ارتبط العرض بتوقيت سياسي ودبلوماسي مدروس، إذ جاء بعد أيام قليلة من انعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون وقمة تيانجين 2025، وهي منصة جمعت قادة آسيا الوسطى وروسيا والهند وباكستان إلى جانب الصين. وقد حرصت بكين على أن يُنظر إلى العرض كامتداد طبيعي للقمة، بحيث يظهر أمام الحلفاء والخصوم على السواء أن الصين لا تكتفي بطرح مبادرات اقتصادية وأمنية في القمم الاقليمية، بل تملك أيضاً قوة صلبة قادرة على حماية تلك المبادرات وضمان تنفيذها. هذا التزامن بين الدبلوماسية الاقتصادية والعرض العسكري يعكس ما يمكن تسميته بـ "الاستراتيجية الصينية الشاملة"، أي الدمج بين عناصر القوة الصلبة والناعمة لتثبيت النفوذ الاقليمي والدولي.
ثالثاً، يأتي العرض في لحظة انتقالية في النظام الدولي، حيث تشهد العلاقات بين القوى الكبرى تراجعاً في التعاون وتنامياً في منطق التنافس والصراع على النفوذ. بالنسبة لبكين، فإن إظهار القوة في هذا التوقيت يهدف إلى تسريع مسار الانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب، وإقناع دول "الجنوب العالمي" بأن الصين قادرة على أن تكون ضامناً أمنياً واقتصادياً بديلاً عن الغرب. من هنا نفهم حضور قادة مثل بوتين وكيم جونج أون، وهو حضور يتجاوز رمزيته البروتوكولية ليؤكد أن بكين تسعى إلى بناء شبكات تحالف جديدة، قد لا تكون رسمية أو مؤسسية بالكامل، لكنها كفيلة بتحدي المركزية الغربية.
رابعاً، لا يمكن إغفال البعد الداخلي للتوقيت. فالقيادة الصينية، وعلى رأسها شي جين بينغ، تسعى إلى تعزيز شرعيتها الداخلية عبر الربط بين الإنجازات التاريخية والانتصارات العسكرية من جهة، وبين مشروع "التجدد القومي" الذي يرفعه الحزب الشيوعي من جهة أخرى. إقامة عرض بهذا الحجم في لحظة تشهد فيها الصين تحديات اقتصادية (تباطؤ النمو، حرب تكنولوجية مع الغرب) يحمل رسالة إلى الداخل مفادها أن البلاد تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق مكانتها كقوة عظمى، وأن أي صعوبات اقتصادية ظرفية لا تقلل من صعودها الاستراتيجي الطويل الأمد.
خامساً، يمكن قراءة العرض أيضاً في سياق سباق التسلح التكنولوجي العالمي. فالصين تدرك أن التنافس مع الولايات المتحدة لم يعد محصوراً في التجارة أو الجغرافيا السياسية، بل انتقل إلى مجالات حاسمة مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والتكنولوجيا العسكرية الفرط صوتية. من هنا، أرادت بكين أن تُظهر للعالم أنها ليست متلقياً للتكنولوجيا الغربية، بل باتت قادرة على إنتاج أنظمة عسكرية متقدمة بقدرات محلية. هذا الاستعراض العلني للتكنولوجيا العسكرية الحديثة، في لحظة يشتد فيها الصراع على أشباه الموصلات وسلاسل الإمداد، يجعل من العرض أيضاً ورقة ضغط في المفاوضات الاقتصادية والتجارية الجارية مع الغرب.
بمعنى آخر، تقاطع تنظيم العرض العسكري مع مسارات متعددة: تصاعد التوتر العسكري حول تايوان وبحر الصين الجنوبي، انعقاد قمة تيانجين/شنغهاي، تفاقم الصراع التكنولوجي مع الولايات المتحدة، والحاجة الداخلية لتعزيز الشرعية الوطنية. كل هذه العوامل جعلت من سبتمبر 2025 لحظة مثالية بالنسبة لبكين لتوظيف العرض العسكري ليس فقط كأداة احتفالية، بل كمنصة استراتيجية شاملة تبعث برسائل مركبة إلى الداخل والخارج على حد سواء.
الدلالات السياسية والأمنية والاقتصادية
1- البعد السياسي
حمل العرض العسكري الأخير للصين، بما انطوى عليه من رمزية كثيفة واصطفافات مقصودة، رسائل سياسية بالغة العمق. فالصين لم تكتفِ باستعراض منظوماتها التسليحية، بل اختارت أن تحول المناسبة إلى منصة لإبراز موقعها بوصفها قطبًا صاعدًا قادرًا على استقطاب قوى "الجنوب العالمي" خلف سردية مغايرة للنظام الدولي القائم. إن حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون إلى جانب الرئيس شي جين بينغ كان إشارة مقصودة إلى أن هناك تكتلًا غير معلن يأخذ شكله تدريجيًا في مواجهة المحور الغربي. فالصورة التي جمعت القادة الثلاثة بمثابة إعلان مرئي لتحالف قوي، يوحي بوجود شبكات تضامن وتحالفات استراتيجية قيد التشكل، تستند إلى رفض الهيمنة الأمريكية والسعي نحو نظام دولي متعدد الأقطاب أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
هذا البعد السياسي يتجاوز مجرد التلويح بالقوة؛ إذ إن الصين تراهن على توظيف قوتها الصاعدة لإعادة بناء "شرعية بديلة" في العالم النامي، تقوم على خطاب المساواة ورفض الإملاءات الغربية. وقد انعكس ذلك في تزايد عدد الدول التي أبدت استعدادًا للانضمام إلى تكتلات مثل البريكس أو منظمة شنغهاي للتعاون، أو على الأقل تعزيز شراكاتها مع بكين. إن سردية الصين في هذا السياق تطرح نفسها كجسر جديد بين آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، في مواجهة خطاب الغرب القائم على الاستثناء والهيمنة.
2- البعد الأمني والعسكري:
من الناحية الأمنية والعسكرية، شكل العرض نقطة انعطاف بارزة في معادلات الردع النووي والاستراتيجي. فإظهار الصين "ثالوثها النووي المكتمل" — أي امتلاكها القدرات النووية البرية والجوية والبحرية المتكاملة — حمل دلالات غير قابلة للتأويل بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها. فهذا الثالوث يعني أن بكين باتت قادرة على تنفيذ "الضربة الثانية" Second Strike، أي الرد الكاسح حتى بعد تلقي هجوم نووي أول، وهو ما يفرض على الولايات المتحدة إعادة النظر في توازن الردع الاستراتيجي في المحيطين الهادئ والهندي.
إن هذا التطور لا يقتصر على العلاقات الصينية–الأمريكية فقط، بل يمتد أثره إلى شرق آسيا برمتها. فاليابان وكوريا الجنوبية، اللتان تعيشان تحت المظلة النووية الأمريكية، ستواجهان ضغوطًا متزايدة لرفع ميزانياتهما الدفاعية، وربما التفكير في خيارات نووية خاصة، على الأقل في شكل برامج ردع صاروخي متطور. أما الهند، المنافس الاقليمي للصين، فقد تجد نفسها مضطرة إلى تسريع تحديث ترسانتها النووية وصواريخها العابرة للقارات، بما قد يفتح الباب أمام حلقة جديدة من سباق التسلح الاقليمي. وبذلك يتحول العرض العسكري من مجرد رسالة استعراض إلى محفز ديناميكي لإعادة عسكرة شرق آسيا، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقرار العالمي.
3- البعد الاقتصادي
أما على المستوى الاقتصادي، فإن الرسائل كانت غير مباشرة لكنها شديدة الأثر. فالعرض لم يقتصر على إظهار القوة النووية والقدرات التقليدية، بل تضمن استعراضًا لتكنولوجيا الطيران والطائرات المسيرة والأسلحة الفرط صوتية، وهي مجالات تمثل مستقبل الصناعات العسكرية والتجارية على حد سواء. هذا الإبراز المتعمد لتفوق تقني صيني يعني أن بكين ترسل إشارة مزدوجة: فهي ليست فقط قوة عسكرية، بل أيضًا قوة صناعية وتكنولوجية تسعى لكسر احتكار الغرب للتقنيات الدقيقة.
هذه النقطة تنعكس فورًا على سلاسل الإمداد العالمية. فمن جهة، سيكثف الغرب جهوده لتقييد وصول الصين إلى أشباه الموصلات والرقائق المتقدمة، كما ظهر في قرارات واشنطن والاتحاد الأوروبي واليابان بتشديد الضوابط على صادرات التكنولوجيا الدقيقة. ومن جهة أخرى، فإن التقدم الصيني يزرع حالة من التوجس في الأسواق العالمية، حيث يعيد المستثمرون حساباتهم بشأن الاستقرار في آسيا. وتزداد هذه الحساسية مع التوجه المتصاعد نحو شراكات صينية–روسية–إيرانية في قطاع الطاقة، ما قد يعيد رسم خرائط تجارة النفط والغاز، ويوجهها بعيدًا عن المسارات التقليدية المسيطر عليها غربيًا. وهنا يصبح العرض العسكري حدثًا ذا امتداد اقتصادي، يضع الأسواق أمام معادلة جديدة قوامها أن الصين لم تعد مجرد "مصنع العالم"، بل قوة قادرة على استخدام التفوق التكنولوجي والعسكري لإعادة هيكلة شبكات التجارة والطاقة في آن واحد.
ردود الفعل الأميركية
أثار العرض العسكري سلسلة من المواقف الحادة في واشنطن، التي عكست حجم القلق الأميركي من التوجهات الصينية الجديدة. ففي خطابه العلني، وصف الرئيس دونالد ترامب التحالف الرمزي الذي جمع بكين وموسكو وبيونغيانغ على منصة واحدة بأنه "تعاون معادٍ" يهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة ويستوجب يقظة استراتيجية مضاعفة. هذا الخطاب لم يكن معزولًا، بل جاء في سياق نقاش أوسع داخل الأوساط السياسية والعسكرية الأميركية حول الحاجة إلى إعادة صياغة أدوات الردع في المحيطين الهندي والهادئ. لقد ارتفعت الأصوات في الكونغرس ومراكز الفكر الاستراتيجية مطالبةً بزيادة ميزانية الدفاع، وتعزيز التحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وأستراليا، في إطار سياسة "احتواء الصين" التي تعود جذورها إلى عهد أوباما وجرى تطويرها في عهد بايدن ثم تعمقت في خطاب ترامب الانتخابي–الرئاسي.
وعلى المستوى العملي، تشير المؤشرات إلى أن واشنطن تتحرك على أكثر من مسار متوازٍ: أولًا، تعزيز وجودها العسكري المباشر في المنطقة عبر نشر مزيد من القطع البحرية وحاملات الطائرات في بحر الصين الجنوبي والبحر الشرقي، بما يوجه رسالة ردع صلبة. ثانيًا، تشديد ضوابط التصدير المتعلقة بالتكنولوجيا الحساسة، وخاصة أشباه الموصلات والرقائق الدقيقة التي تشكل العمود الفقري لأي تفوق عسكري تكنولوجي صيني. ثالثًا، العمل على "تحالفات مرنة" مع دول متوسطة الحجم كالهند وفيتنام، عبر صفقات تسليح وتعاون استخباري، بغية جرها بعيدًا عن محور بكين–موسكو ومنع تشكل توازن قوى إقليمي يميل لصالح الصين. وأخيرًا، لا تغيب الورقة الاقتصادية، حيث تستعد واشنطن لفرض إجراءات عقابية تستهدف مؤسسات عسكرية وتكنولوجية صينية محددة، وهو النهج الذي سبق أن اتبعته ضد "هواوي" و"زد تي إي" ويبدو مرشحًا للتوسع. هذه الردود تعكس أن الولايات المتحدة لا ترى في العرض مجرد حدث بروتوكولي، بل فصلًا جديدًا من فصول التنافس الاستراتيجي مع الصين.
الصين بين العرض العسكري وقمة شنغهاي
لا يمكن فهم دلالات العرض العسكري الصيني إلا في سياق متكامل مع قمة تيانجين (والتي أُطلق عليها في بعض الأدبيات قمة شنغهاي المصغرة) التي انعقدت في التوقيت ذاته تقريبًا. فالعرض قدم الجانب البصري والرمزي من الاستراتيجية الصينية، فيما شكلت القمة الجانب المؤسسي–الدبلوماسي. بكلمات أخرى، العرض كان "العرض العسكري للخطاب الدبلوماسي" الذي جرى بلورته في تيانجين. ففي القمة، دفعت بكين باتجاه تكريس شراكات أعمق في مجالات التكنولوجيا والطاقة والتجارة مع روسيا وإيران ودول آسيوية وأفريقية، مؤكدةً أن النظام الدولي الجديد يجب أن يبنى على أسس متعددة الأقطاب. أما العرض، فقد ترجم هذه الطموحات بلغة "القوة الصلبة"، فأظهر للعالم أن الصين لا تكتفي بالتحرك الاقتصادي، بل تسند خطابها الدبلوماسي بقوة ردع نووية وتقنية متقدمة.
إن الجمع بين القمة والعرض العسكري يحمل دلالات استراتيجية واضحة؛ فهو يؤكد أن بكين تسعى إلى توظيف أدوات القوة الناعمة والقوة الصلبة في إطار شامل ومتناسق. كما أن حضور قادة مثل بوتين وكيم جونغ أون، وممثلي دول أخرى من "الجنوب العالمي"، في العرض العسكري وفي جلسات القمة، أعطى صورة متكاملة عن تكتل قيد التشكل، يدمج بين البعد العسكري–الأمني والبعد الاقتصادي–الدبلوماسي. بهذه الطريقة، بدت الصين وكأنها تعلن للعالم أنها ليست مجرد "قوة اقتصادية"، بل قوة شاملة تطمح إلى إعادة صياغة قواعد التعاون الاقليمي والدولي وفق مصالحها ورؤيتها.
حدود القوة بين الرسالة الإعلامية والواقع العملي
على الرغم من الزخم الإعلامي والسياسي الذي أحاط بالعرض، يرى العديد من المحللين العسكريين الغربيين والآسيويين أن جزءًا غير قليل من المنظومات التي جرى استعراضها قد لا يكون مكتمل الجاهزية العملياتية بعد. بعض الأسلحة الفرط صوتية، على سبيل المثال، لا تزال في مراحل الاختبار أو الانتشار التجريبي، وهو ما يعني أنها لم تُدمج بالكامل في العقيدة القتالية للجيش الصيني. كذلك فإن بعض المنصات النووية البحرية التي ظهرت في العرض لم يُثبت بعد مدى قدرتها على تنفيذ مهام طويلة المدى تحت ظروف الحرب الفعلية.
لكن هذا التقييم لا يقلل من خطورة الرسالة التي أرادت بكين توصيلها. فالعرض العسكري ليس بالضرورة انعكاسًا حرفيًا للقوة القتالية الجاهزة، بقدر ما هو أداة لبناء "ردع نفسي" يوازي، وربما يتجاوز، الردع المادي. إن إظهار نماذج متطورة من الأسلحة يكفي لإقناع الخصوم بأن الصين تملك القدرة على مفاجأتهم في المستقبل القريب، وهو ما يدخل في إطار "الحرب النفسية الاستراتيجية". وبذلك، فإن الفارق بين القوة الفعلية والقوة المعروضة يصبح جزءًا من اللعبة ذاتها: بكين تدرك أن خصومها سيظلون مضطرين للتصرف وكأن تلك القدرات جاهزة بالكامل، ما يمنحها هامش مناورة سياسيًا وعسكريًا في المدى القصير.
ختاماً، يمكن القول إن العرض العسكري الصيني في سبتمبر 2025 تجاوز كونه احتفالًا بذكرى تاريخية ليغدو أداة استراتيجية متعددة الأبعاد. داخليًا، عزز شرعية القيادة الصينية وربط مشروع التحديث العسكري بسردية وطنية جامعة تعيد إنتاج "الحلم الصيني" في ثوب عسكري–تكنولوجي متطور. خارجيًا، وجه رسائل متوازية: رسالة ردع قوية إلى الولايات المتحدة وحلفائها بأن بكين باتت تملك مقومات الردع الشامل، ورسالة دبلوماسية إلى "الجنوب العالمي" مفادها أن الصين تسعى إلى نظام دولي أكثر عدالة وتعددية. إن تزامن العرض مع قمة تيانجين أضفى على الحدث بعدًا إضافيًا، حيث التقت القوة العسكرية مع شبكات التحالفات الاقتصادية والسياسية، فيما شكل حضور بوتين وكيم علامة فارقة في بلورة تحالف رمزي متنامٍ. ومع ذلك، يبقى السؤال؛ إلى أي مدى تستطيع الصين أن تحول هذه الرمزية إلى قدرة عملياتية راسخة تحدث تغييراً عملياً في قواعد اللعبة الدولية.