من وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب دلالات ورسائل تغییر اسم المؤسسة العسكرية الأمريكية

أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أوائل سبتمبر الجاري، موجة واسعة من الجدل الداخلي والخارجي بعد توقيعه أمرًا تنفيذيًا يقضي بإعادة تسمية وزارة الدفاع الأمريكية لتعرف مجددًا باسم "وزارة الحرب"، وهو الاسم التاريخي الذي ارتبط بالمؤسسة العسكرية منذ نشأتها في عام 1789 وحتى تغييره بعد الحرب العالمية الثانية بموجب قانون الأمن القومي لعام 1947 الذي أقره الرئيس هاري ترومان. وبرغم أن الأمر التنفيذي لا يملك قوة القانون، حيث أن تعديل الاسم رسميًا يستلزم تشريعًا يصدر عن الكونغرس، فإن إدارة ترامب بادرت بالفعل إلى استخدام المصطلح الجديد في المراسلات الداخلية واللافتات الرسمية، بما في ذلك وضع لافتة بارزة عند مدخل البنتاغون تحمل عبارة "غرفة الحرب" مطلية بالذهب. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير شكلي في التسمية، بل خطوة مشحونة بالرمزية السياسية والفكرية، أعادت فتح نقاش عميق حول هوية القوة الأمريكية، وطبيعة عقيدتها العسكرية، وحدود التداخل بين الخطاب السياسي والواقع المؤسسي في مرحلة تتسم بالاستقطاب الداخلي والاضطراب الدولي.
العودة إلى التاريخ: من وزارة الحرب إلى وزارة الدفاع
تاريخيًا، عُرفت المؤسسة العسكرية الأمريكية منذ تأسيسها في عهد جورج واشنطن بوزارة الحرب، حيث كانت مسؤولة عن تنظيم وإدارة القوات البرية، فيما تولت وزارة البحرية منفصلة إدارة الأسطول البحري. هذا التقسيم استمر طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ليواكب طبيعة الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، سواء في إطار توسعها غربًا أو في معاركها ضد قوى خارجية مثل بريطانيا وإسبانيا. وفي عام 1947، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى، أعيدت هيكلة النظام العسكري بموجب قانون الأمن القومي، فتم دمج وزارة الحرب ووزارة البحرية في إطار موحد تحت مسمى "وزارة الدفاع"، على أن تُستحدث القوات الجوية كفرع مستقل. كان الهدف آنذاك أن يُعبّر الاسم الجديد عن فلسفة مغايرة: فلسفة تقوم على الردع والحماية وحفظ التوازن الدولي، لا على خوض الحروب المباشرة باسم الهجوم أو الغزو.
لكن ترامب يرى أن هذا التحول التاريخي لم يكن محض إعادة تنظيم، بل بداية لانحدار استراتيجي وبيروقراطي أضعف روح "المحارب" في المؤسسة العسكرية. ففي خطابه أثناء توقيع القرار، استحضر سلسلة من الحروب التي دخلتها الولايات المتحدة دون أن تحقق نصرًا واضحًا، بدءًا من الحرب الكورية إلى فيتنام، مرورًا بالعراق وأفغانستان، معتبرًا أن المؤسسة العسكرية منذ استبدال الاسم باتت تخوض "حروبًا لا نهاية لها" من دون القدرة على الحسم. بهذا المعنى، فإن إعادة إحياء اسم "وزارة الحرب" يمثل ـ في نظر ترامب وأنصاره ـ عودة إلى المنطق الأصلي للجيش كأداة قتال وانتصار، لا كأداة إدارة أزمات أو الانخراط في نزاعات طويلة الأمد بلا نتائج ملموسة.
الرمزية السياسية للتسمية
الخطوة التي اتخذها ترامب تكشف عن إدراك عميق لقوة الرموز اللغوية في تشكيل العقيدة والسلوك. فالكلمات ليست مجرد توصيف محايد، بل تحمل دلالات تترجم إلى تصورات ذهنية وسياسات عملية. بالنسبة لأنصار ترامب، فإن العودة إلى "وزارة الحرب" تعبّر عن وضوح وصراحة في تعريف وظيفة الجيش، بعيدًا عن "اللغة المخففة" التي توحي بأن الولايات المتحدة في موقع دفاعي دائم. هذه الصراحة ـ بحسبهم ـ تعيد الاعتبار لمفهوم الردع القائم على القوة، وتبعث رسالة ردعية إلى الخصوم مفادها أن الجيش الأمريكي وُجد ليقاتل وينتصر، لا ليُدار كإدارة بيروقراطية مترددة.
لكن في المقابل، يرى المعارضون أن عسكرة اللغة السياسية ليست مجرد تغيير رمزي، بل خطوة تنطوي على مخاطر سياسية وفكرية عميقة. فالتسمية الجديدة قد تُفهم عالميًا على أنها إعلان نوايا عدوانية، خصوصًا في عالم يعيش على وقع أزمات متفجرة من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط. كما أنها قد تُستثمر من قبل خصوم الولايات المتحدة لتأكيد صورة "الإمبراطورية الحربية" التي لا تسعى إلا للهيمنة بالقوة. هذه القراءة النقدية تحذر من أن إحياء تسمية "وزارة الحرب" قد يساهم في تقويض الشرعية الأخلاقية التي سعت واشنطن لعقود إلى بنائها كقوة "مدافعة عن النظام الدولي".
الأبعاد السياسية الداخلية: ترامب ونظرية "المجنون"
على الصعيد الداخلي، لا يمكن فصل هذه الخطوة عن توجهات ترامب السياسية الأوسع. فمنذ عودته إلى البيت الأبيض، حرص على إعادة صياغة مؤسسات الدولة بخطاب يتحدى الأعراف البيروقراطية والسياسية. خطوة إعادة التسمية، بحسب تحليل صحف كبرى مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز، لا تُقرأ كقرار إداري بل كرسالة سياسية ذات بعد انتخابي وشعبوي. فهي تسعى إلى استدعاء "الماضي البطولي" في الذاكرة الشعبية الأمريكية، وإلى ترسيخ صورة ترامب كرئيس "قوي" لا يخشى الصدام مع المؤسسة السياسية التقليدية.
البعض شبه هذه الخطوة بما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ"نظرية المجنون" (Madman Theory) التي اعتمدها الرئيس ريتشارد نيكسون خلال الحرب الباردة، والتي تقوم فكرتها على إظهار الرئيس بمظهر الشخص المستعد لاتخاذ قرارات قصوى وغير متوقعة، بحيث يُرهب الخصوم ويدفعهم إلى التراجع. وبالمثل، فإن ترامب يوظف هذه الرمزية اللغوية ليبعث برسائل قوة إلى الخارج، وفي الوقت ذاته يحشد الداخل عبر إثارة مشاعر الحنين والاعتزاز الوطني لدى قاعدته الشعبية.
معركة داخل الكونغرس: حدود الأمر التنفيذي
رغم الضجيج الذي أثاره القرار الترامبي، فإن الأمر التنفيذي لا يملك قوة القانون لتغيير اسم وزارة الدفاع رسميًا. فذلك يتطلب تشريعًا من الكونغرس، وهو ما يبدو مستبعدًا في ظل الانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين. المعارضون الديمقراطيون وصفوا الخطوة بأنها "مسرحية سياسية"، واعتبروا أن ما يهم ليس اسم الوزارة بل الحفاظ على مؤسسة عسكرية تخضع للدستور وتعمل بعيدًا عن الحسابات الحزبية. السيناتور جاك ريد، مثلًا، شدد على أن الجيش يجب أن يبقى مؤسسة مهنية لا مجال فيها للمزايدات الرمزية.
حتى من الناحية العملية، فإن أي تغيير كامل يشمل إعادة تصميم الشعارات الرسمية، تحديث الوثائق، تعديل المواقع الإلكترونية، وإعادة طباعة ملايين النسخ من اللوائح والأنظمة الإدارية، قد يكلف مليارات الدولارات. وهذا يثير جدلًا إضافيًا حول جدوى إنفاق موارد ضخمة على تغيير رمزي في وقت تواجه فيه البلاد تحديات اقتصادية واجتماعية ملحة.
التداعيات الخارجية: بين الردع والعزلة
في البعد الخارجي، تطرح الخطوة معضلة حقيقية بين تعزيز الردع من ناحية، وتعميق العزلة من ناحية أخرى. فأنصار ترامب يرون أن التسمية الجديدة تبعث برسالة ردعية إلى الخصوم مثل الصين وروسيا وإيران، بأن الولايات المتحدة لم تعد تخجل من تعريف نفسها كقوة حرب. لكن منتقدين يحذرون من أن هذه اللغة قد تُعقد علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين والآسيويين، الذين يرون أن المرحلة الحالية تتطلب التهدئة والتوازن أكثر من التصعيد الخطابي. كما أن الخطوة قد تُستخدم من قبل الدعاية الروسية أو الصينية لتصوير الولايات المتحدة كدولة عدوانية تُشرعن الحرب كلغة رسمية في سياساتها.
مقارنات عالمية: عسكرة الرموز في روسيا والصين
لإدراك عمق البعد الرمزي لهذه الخطوة، يمكن مقارنتها بتجارب دول أخرى استخدمت اللغة كأداة سياسية. ففي روسيا، يُلاحظ كيف استُعيدت رموز "الأم الكبرى" و"الحرب الوطنية العظمى" لتعزيز شرعية الكرملين وحشد الشعب خلف سياسة توسعية في أوكرانيا. وفي الصين، اعتمد الحزب الشيوعي على مصطلحات مثل "تجديد الأمة" و"جيش التحرير" لتبرير تحديث عسكري ضخم يعكس عقيدة هجومية مقنعة برداء دفاعي. هذا يوضح أن استخدام الرموز اللغوية في المجال العسكري ليس مجرد ترف بل استراتيجية مقصودة لتشكيل وعي جمعي وإرسال رسائل ردعية إلى الداخل والخارج. وبالتالي، فإن إعادة ترامب تسمية وزارة الدفاع إلى "وزارة الحرب" تنسجم مع هذا النمط العالمي من عسكرة اللغة بوصفها جزءًا من أدوات السلطة.
بين الهوية العسكرية والدبلوماسية العالمية
تكشف هذه الخطوة عن التوتر المتجدد في هوية الولايات المتحدة، وما إذا كانت تتبنى قوة حرب وهيمنة عسكرية قائمة على منطق التدخل والردع، أم قوة دفاع وحماية للنظام الدولي بصفتها ضامنًا للاستقرار وساعيًا للتحالفات. هذا الجدل رافق واشنطن منذ صعودها بعد الحرب العالمية الأولى، وازداد وضوحًا خلال الحرب الباردة، حيث جمعت بين الردع النووي والتدخلات العسكرية من جهة، والدبلوماسية وخطة مارشال وحلف الناتو من جهة أخرى.
كذلك إعادة تسمية وزارة الدفاع إلى "وزارة الحرب" تميل بالكفة رمزيًا لصالح منطق القوة الصلبة، وتُرسل رسائل بأن واشنطن تفضل المواجهة المباشرة على بناء التوافقات، ما قد يقلق الحلفاء الأوروبيين والآسيويين الذين يرون فيها ضامنًا للاستقرار أكثر من كونها محركًا للتصعيد. كما يعيد هذا التحول إحياء النقاش حول "الهوية الإمبراطورية" للولايات المتحدة، إذ يُضعف غطاء الشرعية الأخلاقية الذي ارتكز على شعارات "حماية الديمقراطية" و"الدفاع عن الحرية"، ويعرض صورتها كقوة حرب صريحة.
وبذلك، فإن الخطوة لا تقف عند حدود الرمزية، بل قد تُقوّض الجاذبية الدبلوماسية الأمريكية وتحد من قدرتها على بناء تحالفات واسعة، فيما يمنح خصومها كالصين وروسيا مساحة إضافية لتصويرها كقوة عدوانية تسعى إلى فرض الهيمنة بدل حماية الاستقرار الدولي.
في المحصلة، فإن خطوة ترامب كشفت عن صراع أعمق حول طبيعة الدور الأمريكي في القرن الحادي والعشرين. بالنسبة لأنصاره، هي عودة إلى الوضوح والحزم واستعادة روح المحارب. وبالنسبة لمنتقديه، هي تصعيد خطابي خطير يكرس عسكرة السياسة الأمريكية ويُهدد بعزل الولايات المتحدة عن حلفائها. وبين هذين التقديرين، يبقى السؤال مطروحًا: هل ستترسخ تسمية "وزارة الحرب" كجزء من هوية المؤسسة العسكرية الأمريكية في المستقبل، أم ستُطوى سريعًا مع انتهاء ولاية ترامب، لتظل مجرد محطة رمزية في مسار سياسي يتسم بالاضطراب والاستقطاب؟