إنذار مبكر .. ارتدادات استمرار النزاع في ليبيا على الأمن القومي المصري

أولاً- مدخل عام
دخلت الأزمة الليبية عامها الخامس عشر منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي عام 2011، ولا تزال البلاد أسيرة مشهد انقسامي معقد يهيمن عليه الطابع الميليشياوي والتدخل الخارجي، الأمر الذي جعل ليبيا تتحول من دولة ذات موارد هائلة وموقع استراتيجي حيوي على المتوسط، إلى ساحة مفتوحة للصراع الإقليمي والدولي. فرغم عشرات المؤتمرات الدولية، بدءًا من برلين وصولًا إلى جولات الحوار الأخيرة برعاية الأمم المتحدة، فإن أي تسوية سياسية شاملة لا تزال بعيدة المنال، حيث يرسخ الانقسام الجغرافي والمؤسسي بين الشرق الليبي (الذي يهيمن عليه الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر) والغرب (الذي تسيطر عليه حكومة طرابلس المدعومة من تركيا) حالة الجمود الراهنة. وبالنظر إلى الحدود الطويلة التي تربط مصر بليبيا، وامتداد الروابط الاجتماعية والقبلية بين البلدين، فإن استمرار النزاع ليس مجرد قضية تخص الجوار، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصالح مصر العليا ويشكل أحد أبرز محددات أمنها القومي خلال المرحلة الراهنة.
ثانياً- الديناميات الميدانية الراهنة
تشير التطورات الميدانية في ليبيا إلى أن البلاد تتحول تدريجيًا إلى فسيفساء معقدة من مناطق النفوذ والسيطرة، حيث تتعايش سلطات متوازية مع ميليشيات مسلحة لها ارتباطات خارجية متعددة. وتبرز في هذا السياق ثلاثة محاور رئيسية:
- المثلث الحدودي (مصر–ليبيا–السودان): يشهد هذا المثلث تصاعدًا ملحوظًا في أنشطة التهريب والحركة غير النظامية للجماعات المسلحة، خصوصًا في ظل انفجار النزاع السوداني بعد أبريل 2023، والذي أوجد بيئة رخوة أمنيًا يسهل اختراقها. وتحوّل هذا المثلث إلى نقطة تلاقي بين مهربي السلاح والبشر والوقود، إضافة إلى جماعات متطرفة تستغل الفراغ الأمني لتأسيس خطوط إمداد جديدة. بالنسبة للقاهرة، يضاعف هذا الوضع من الأعباء الملقاة على عاتق الجيش المصري في مراقبة الحدود الطويلة، ويخلق تهديدًا مزدوجًا مصدره كل من الجنوب الليبي ودارفور السودانية.
- الاقتصاد الموازي وهيمنة الميليشيات :تشهد ليبيا حالة من تداخل غير مسبوق بين المسارات الاقتصادية غير الرسمية والنشاط الميليشياوي، حيث تحولت عمليات تهريب الوقود والسلع الأساسية، فضلًا عن الاتجار بالبشر، إلى مصدر تمويل أساسي لفصائل مسلحة. هذا التداخل لا يقوض فقط محاولات بناء دولة وطنية حديثة، بل يُنتج ديناميات اقتصادية غير مشروعة تمتد آثارها إلى دول الجوار، بما فيها مصر، التي تجد نفسها أمام تحدي ضبط الأسواق والحد من تدفق سلع أو عناصر يمكن أن تهدد استقرارها الداخلي.
- استمرار الانقسام المؤسسي: يُشكل استمرار ازدواجية السلطة بين الشرق والغرب عائقًا جوهريًا أمام أي إمكانية لتنسيق أمني أو سياسي فعال مع القاهرة. فبينما تربط مصر علاقات وثيقة مع سلطات الشرق الليبي، فإن سيطرة حكومة طرابلس على معظم الموارد المالية والنفطية يضعها في موقع لا يمكن تجاوزه، الأمر الذي يعقّد قدرة القاهرة على بناء شراكة متوازنة مع كل الأطراف.
ثالثاً- المحاور المؤثرة على الأمن القومي المصري
1- البُعد الأمني – مكافحة الإرهاب
يشكل البُعد الأمني التهديد الأكثر مباشرة لمصر، حيث إن حالة الفراغ في الجنوب الليبي، الممتد على حدود شاسعة مع النيجر وتشاد والسودان، خلقت بيئة خصبة لإعادة تمركز جماعات مرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة. هذه الجماعات التي تراجعت نسبيًا في المشرق العربي، تجد في ليبيا موقعًا مثاليًا لإعادة بناء قواعدها، مستفيدة من غياب مؤسسات الدولة وصعوبة السيطرة على الأراضي الوعرة. وبالنسبة لمصر، فإن خطورة هذا التمركز لا تكمن فقط في احتمالية شن عمليات إرهابية عبر الصحراء الغربية أو وادي النيل، بل أيضًا في التأثير النفسي والسياسي الذي قد يُنتج إحساسًا متجددًا بالتهديد لدى المجتمع المصري ويزيد الضغوط على مؤسسات الدولة.
2- البُعد الحدودي والهجرة
الهجرة غير النظامية تُعد أحد أكثر التحديات حساسية في المرحلة الراهنة، حيث أصبحت ليبيا مركزًا رئيسيًا لعبور المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء نحو المتوسط. ومع ازدياد القيود الأوروبية على تدفقات المهاجرين، ثمة احتمال أن تتحول مصر من دولة عبور إلى دولة استقرار قسري لهؤلاء، وهو ما سيضع ضغوطًا اقتصادية واجتماعية إضافية على الحكومة المصرية. كما أن طول الحدود المشتركة (أكثر من 1200 كيلومتر) يمثل تحديًا هيكليًا يصعب تجاوزه، حتى مع التطور الكبير في وسائل المراقبة الجوية والأرضية التي يوظفها الجيش المصري.
3- البُعد الاقتصادي والطاقة
تُعد ليبيا أحد أكبر منتجي النفط في أفريقيا، ورغم تراجع الإنتاج بسبب النزاع، فإن أي اضطراب في الصادرات الليبية ينعكس مباشرة على أسعار الطاقة في السوق الإقليمية. بالنسبة لمصر، التي تعمل منذ سنوات على تعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة، فإن استمرار الفوضى الليبية قد يخلق منافسة غير متوازنة أو تهديدات غير مباشرة لمشروعات الغاز شرق المتوسط. كما أن فرص الشركات المصرية في الاستثمار بقطاع إعادة الإعمار تظل رهينة بقاء الانقسام، وهو ما يُفقد القاهرة ورقة نفوذ اقتصادي مهمة.
4- البُعد الجيوسياسي
تزايد حضور القوى الدولية والإقليمية في ليبيا –من روسيا وتركيا إلى الولايات المتحدة وإيطاليا والإمارات– يجعل الساحة الليبية أقرب إلى لوحة صراع نفوذ متشابكة. وفي ظل هذا التداخل، تجد القاهرة نفسها محاصرة بين نفوذين متصاعدين: النفوذ التركي في الغرب عبر دعم حكومة طرابلس، والنفوذ الروسي في الشرق من خلال قوات فاغنر وما تبقى منها بعد إعادة هيكلتها. هذا الواقع يقلص من هامش المناورة المصري، ويفرض على القاهرة تبني سياسة أكثر حذرًا ومرونة في آن واحد، لتجنب أي تصعيد غير محسوب مع أي طرف خارجي فاعل.
رابعاً: السيناريوهات المحتملة (2025–2026)
- سيناريو الاستمرار/الجمود (الأكثر ترجيحًا): بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، مع استمرار الانقسام بين الشرق والغرب، وتواصل نشاط الميليشيات، وتوسع شبكات التهريب. هذا السيناريو لا يحمل انفجارًا مباشرًا لكنه يُبقي على مستوى تهديد مرتفع للأمن المصري.
- سيناريو التصعيد العسكري: انزلاق الأوضاع نحو مواجهة مفتوحة بين الشرق والغرب، ربما بدفع خارجي، ما سيعني تدفق موجات لجوء جديدة وزيادة احتمالية تسلل عناصر مسلحة إلى الأراضي المصرية.
- سيناريو التفاهمات الدولية: التوصل إلى اتفاق سياسي محدود برعاية أممية، يخفف من حدة التوتر لكنه لا يعالج الجذور العميقة للأزمة. في هذه الحالة، ستبقى مصر أمام تحديات أمنية وحدودية، حتى لو تم تخفيف الضغط الميداني نسبيًا.
خامساً: تقدير الموقف المصري
يستند الموقف المصري في تعامله مع الأزمة الليبية إلى مجموعة من عناصر القوة والضعف والفرص والتهديدات. فمن جهة، تمتلك القاهرة قوة عسكرية معتبرة وخبرة طويلة في تأمين الحدود الغربية، كما أن الروابط الاجتماعية والقبلية مع قبائل الشرق الليبي تمنحها عمقًا استراتيجيًا لا يتوافر لأي طرف آخر. ومن جهة أخرى، تفرض الحدود الطويلة والملفات المتعددة الضاغطة (غزة في الشرق، السودان في الجنوب، ليبيا في الغرب) عبئًا استراتيجيًا ثقيلًا على صانع القرار المصري.
أما على مستوى الفرص، فإن استمرار دور مصر كوسيط إقليمي مقبول دوليًا يتيح لها تعزيز شراكاتها مع أوروبا في ملف الهجرة والطاقة، إضافة إلى إمكانية التوسع في استثمارات إعادة الإعمار في المناطق المستقرة نسبيًا بشرق ليبيا. لكن في المقابل، يظل التهديد الأكبر متمثلًا في تحول الجنوب الليبي إلى ملاذ آمن للإرهاب العابر للحدود، واحتمالية انفجار موجات نزوح كبرى، فضلًا عن خطورة ترسخ النفوذ التركي والروسي في مناطق حساسة على مقربة من حدود مصر.
سادساً: مؤشرات الإنذار المبكر الواجب مراقبتها
- تصاعد هجمات التنظيمات المتطرفة في الجنوب الليبي، سيما إذا استهدفت البنية التحتية النفطية.
- اندلاع مواجهات مسلحة واسعة بين قوات حفتر والميليشيات في الغرب.
- تزايد الضغوط الأوروبية على مصر لتحمل مسؤولية أكبر في ملف المهاجرين القادمين عبر ليبيا.
- تحركات روسية–تركية لإعادة ترسيم مناطق النفوذ، بما قد يُقيد حرية الحركة المصرية.
- نشاط متزايد لشبكات التهريب عبر المثلث الحدودي المصري–الليبي–السوداني.
خاتمة
تُظهر المعطيات الراهنة أن استمرار النزاع الليبي، في ظل غياب أفق سياسي واضح وتزايد التدخلات الخارجية، لم يعد مجرد أزمة إقليمية مجاورة، بل أصبح تحديًا مباشرًا للأمن القومي المصري يضغط على عدة جبهات في وقت واحد. ورغم ما تملكه القاهرة من أدوات للتعامل مع هذه التهديدات، فإن تشابك العوامل الميدانية والاقليمية والدولية يجعل من الضروري أن يظل الملف الليبي في مقدمة أولويات السياسة المصرية، ليس فقط عبر تعزيز إجراءات التأمين العسكري المباشر على الحدود، ولكن أيضًا من خلال تبني مقاربة شاملة تجمع بين الحضور الدبلوماسي الفاعل، والتنسيق الأمني مع الشركاء، والانفتاح على فرص الاستثمار والاستفادة من أي نافذة للتسوية، بما يضمن تقليل المخاطر وتعظيم المكاسب في بيئة استراتيجية تتسم بدرجة عالية من السيولة وعدم اليقين.