نزع سلاح حزب الله: المآلات وإشكاليات التطبيق

تشكل قضية نزع سلاح حزب الله إحدى أكثر الإشكاليات البنيوية تعقيداً في المشهدين اللبناني والإقليمي، إذ لا يمكن اختزالها في بعدها الأمني المتعلق بسيادة الدولة واحتكارها لاستخدام القوة المسلحة، بل تتجاوز ذلك لتلامس جوهر التوازنات الطائفية والسياسية والاقتصادية التي يقوم عليها النظام اللبناني، كما ترتبط عضوياً بتفاعلات إقليمية ودولية أوسع نطاقاً. ومؤخراً بات هذا الملف أمام مرحلة حرجة وغير مسبوقة، نتيجة تلاقي متغيرين استراتيجيين فارقين: أولهما، التداعيات العميقة للحرب الأخيرة مع إسرائيل في أواخر عام 2024، والتي ألحقت بالحزب خسائر ملموسة على الصعيد العسكري وأعادت اختبار قدرته على الاستمرار كقوة ردع إقليمية؛ وثانيهما، الانهيار الدراماتيكي للنظام السوري، الذي كان يمثل لعقود العمق الاستراتيجي لحزب الله وشريان دعمه اللوجستي والعسكري.
وإلى جانب ذلك، يبرز العامل الدولي عبر تكثيف الضغوط على الحكومة اللبنانية، التي اتخذت خطوة تاريخية بتكليف المؤسسة العسكرية إعداد خطة عملية لنزع السلاح، في تطور يضع الدولة أمام اختبار صعب لتوازن القوى الداخلي والخارجي. ومن ثم، فإن هذه الإشكالية لا يمكن مقاربتها بمنطق أمني بحت، بل تتطلب قراءة معمقة لمجموعة متداخلة من العوامل البنيوية والسياسية والطائفية والاقتصادية والاجتماعية، التي تشكل عوائق أمام التنفيذ، بما يفتح المجال أمام استشراف سيناريوهات متعددة لمستقبل هذا الملف في ضوء التحولات التي شهدها الإقليم خلال العام الجاري.
أولاً- الجذور التاريخية والشرعية المتضاربة
تحول الحزب لدولة موازية
تكمن الإشكالية الأساسية في ملف نزع سلاح حزب الله إلى طبيعة الحزب نفسها، الذي تطور منذ نشأته في عام 1982 كحركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، إلى ما يشبه "دولة موازية" أو حتى "دولة عميقة" داخل الدولة اللبنانية. فقد نجح الحزب في تكريس شرعيته الشعبية والوطنية، سيما بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي في عام 2000، مما رسخ مكانته كقوة مقاومة. إلا أن مسار الحزب لم يتوقف عند حده العسكري، بل تمدد ليشمل منظومة متكاملة من النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ما جعله فاعلاً شاملاً يتجاوز الإطار العسكري البحت.
ويعتمد الحزب على هيكل تنظيمي محكم، يضم "المجلس الجهادي" المسؤول عن نشاطاته العسكرية و"المجلس السياسي" الذي يضطلع بدوره في إدارة شؤونه الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى شبكة واسعة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية. من أبرز هذه المؤسسات "مؤسسة القرض الحسن" التي توفر قروضاً ميسّرة من دون فوائد، و"بيت المال" الذي يمثل الذراع المالي والاستثماري للحزب. هذه الشبكة المترابطة جعلت نزع السلاح مسألة أعقد من مجرد مصادرة معدات عسكرية، بل تحدياً وجودياً يطال بنية كيان موازٍ متكامل. وهذا يفسر إلى حد بعيد فشل كافة المبادرات السابقة التي حاولت معالجة القضية في بعدها العسكري فقط.
الشرعية القانونية مقابل الشرعية الوطنية
تتعقد الأزمة أكثر بفعل التناقض الصارخ بين الأسس القانونية الدولية والشرعية الوطنية الداخلية لسلاح الحزب. فمن منظور القانون الدولي، تنص قرارات مجلس الأمن ـ ولا سيما القرار 1559 (2004) والقرار 1701 (2006) ـ على ضرورة حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، ونزع سلاحها، وبسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها. غير أن الواقع الداخلي اللبناني أخذ مساراً مغايراً، حيث منحت الشرعية الوطنية الحزب غطاءً سياسياً متواصلاً.
فبعد اتفاق الطائف عام 1989، الذي نص على حل الميليشيات التي شاركت في الحرب الأهلية، جرى استثناء سلاح "المقاومة" من المصادرة، بحجة استمرارية التهديد الإسرائيلي. وعلى مدى العقود التالية، كرست الحكومات اللبنانية المتعاقبة هذه المعادلة عبر تبني صيغة "الجيش والشعب والمقاومة" في بياناتها الوزارية، ما أضفى طابعاً شبه رسمي على وجود سلاح الحزب، رغم عدم خضوعه للسلطة الشرعية للدولة.
الحلقة المفرغة بين المواقف اللبنانية والإسرائيلية
أدى هذا التناقض إلى تكوين حلقة مفرغة من الجمود السياسي والأمني. فكل طرف يفسّر القرارات الدولية بما يخدم مصالحه: إذ يعتبر مؤيدو حزب الله أن القرار 1701 لم يُنفذ بالكامل من الجانب الإسرائيلي، ولا سيما لجهة الانسحاب الكامل ووقف الخروقات، ما يُبقي مبرر "المقاومة" قائماً. في المقابل، تشترط إسرائيل أن يكون أي انسحاب أو تفاوض مرتبطاً بشكل مباشر بنزع سلاح حزب الله، وتعتبر السلاح نفسه التهديد الأكبر لأمنها القومي.
هذا التبادل المشروط للمواقف جعل كلا الطرفين "رهينة" الآخر، بحيث لا يمكن إحراز أي تقدم دون تنازلات متبادلة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. ونتيجة لذلك، تحول ملف السلاح من شأن سيادي لبناني إلى أداة في صراع إقليمي أوسع، يُستخدم فيها لبنان كساحة لتصفية الحسابات، أكثر من كونه ساحة لحل داخلي مستقل.
ثانياً- سياقات وديناميات قرار نزع سلاح حزب الله
تداعيات الحرب الأخيرة مع إسرائيل
أحدثت المواجهة العسكرية مع إسرائيل في أواخر عام 2024 انعطافة حادة في وضع حزب الله، إذ تكبد الحزب خسائر وصفت بالأكثر فداحة منذ تأسيسه عام 1982. فقد أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى أن الحزب فقد أكثر من نصف مخزونه من الأسلحة المتوسطة والثقيلة، بما في ذلك صواريخ دقيقة بعيدة المدى كان يعول عليها لردع إسرائيل، إضافة إلى مقتل أو إصابة آلاف المقاتلين من نخبة قواته الخاصة. كما جرى تدمير عدد واسع من البنى التحتية الاستراتيجية، شملت مراكز قيادة وسيطرة، شبكة من الأنفاق المحصنة في الجنوب والبقاع، ومستودعات رئيسية لتخزين الصواريخ.
وفي مقابل هذه الخسائر، اعتمدت إسرائيل خلال الحرب مقاربة "الاستنزاف المنهجي" بدلاً من الانجرار إلى تصعيد شامل أو احتلال بري واسع، فركزت عملياتها على استهداف البنية العسكرية للحزب بدقة، مع تجنب الانزلاق إلى حرب مفتوحة تتيح للحزب استعادة دوره "كقوة مقاومة". وبهذا، أعادت إسرائيل صياغة قواعد الاشتباك: من حرب استنزاف متبادلة إلى حرب تقويض استراتيجي تستهدف قدرة الحزب على القيادة والسيطرة في الأمد المنظور.
النتيجة المباشرة لهذه المواجهة كانت إضعافاً غير مسبوق للبنية العسكرية للحزب، ما أثار جدلاً داخلياً وخارجياً حول ما إذا كان هذا الضعف يشكل فرصة تاريخية لإعادة فرض سيادة الدولة اللبنانية ونزع سلاح الحزب، أو مجرد محطة عابرة في مسار صراعه الطويل مع إسرائيل.
سقوط نظام الأسد في سوريا
لا يقل هذا المتغير أهمية عن الأول، بل قد يفوقه من حيث الأثر الاستراتيجي، فمنذ اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، تحولت سوريا إلى العمق الاستراتيجي لحزب الله، حيث شكلت المنفذ الحيوي لشحنات الأسلحة الإيرانية، ومسرح التدريب العسكري، والمجال الخلفي الذي يتيح للحزب التمدد إقليمياً. ومع سقوط نظام بشار الأسد، خسر الحزب ومعه إيران أهم ركائز الدعم الجيوسياسي التي اعتمدوا عليها لعقود.
الأمر لم يتوقف عند سقوط النظام فحسب، بل إن الموقف السوري الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع جاء قاطعاً في طبيعته. ففي خطابه بتاريخ 24 أغسطس 2025، أعلن الشرع أن "سوريا تجاوزت الجراح التي تسبب بها الحزب"، مؤكداً أن بلاده لن تتعامل بعد اليوم مع أي "أحزاب أو ميليشيات مسلحة"، بل فقط مع "الحكومة اللبنانية الشرعية". بهذا الإعلان، أسدل الستار على مرحلة طويلة من التحالف الاستراتيجي السوري ـ الإيراني ـ حزب الله، ووجد الحزب نفسه أمام تحديات لوجستية غير مسبوقة في ما يتعلق بتمرير السلاح والتمويل.
هذا التحول الجذري مثل "ضربة قاصمة" ليس فقط للحزب، بل أيضاً لإيران، التي فقدت واحداً من أهم الجسور الإقليمية لإدارة نفوذها في المشرق. وبذلك، أضحى حزب الله أمام فراغ استراتيجي يصعب ملؤه سريعاً، لا سيما في ظل الضغوط الغربية والدولية المتزايدة على خطوط الإمداد البديلة.
تلاقي العاملين: فرصة للدولة أم مدخل لمخاطر جديدة؟
إن تزامن هذين العاملين ـ الضعف العسكري بفعل الحرب، وفقدان العمق الاستراتيجي بسقوط النظام السوري ـ منح الحكومة اللبنانية فرصة غير مسبوقة لاتخاذ قرار تاريخي بتكليف الجيش إعداد خطة عملية لنزع السلاح. وهو تطور ينقل القضية من حيز المناورات السياسية والدبلوماسية إلى مستوى التنفيذ العملي.
غير أن هذه الفرصة التاريخية تنطوي على مفارقة بالغة الخطورة: فضعف الحزب لا يعني بالضرورة استعداده للقبول بالتسوية. على العكس، قد يدفعه الإحساس بالخطر الوجودي إلى التشدد ورفض أي تنازل خشية الظهور بمظهر الضعيف أمام قواعده الداخلية وحلفائه الإقليميين. كما أن إيران، التي تعتبر الحزب ذراعها الأبرز في شرق المتوسط، ستسعى جاهدة لإعادة ترميم قدراته، ولو عبر قنوات غير تقليدية، الأمر الذي قد يطيل أمد الأزمة.
ومن هنا، فإن الضغط الجيوسياسي الجديد، رغم كونه فرصة لإعادة فرض سيادة الدولة، قد يقود في الوقت ذاته إلى سيناريوهات أكثر تصعيداً إذا ما قرر الحزب المراهنة على الوقت وانتظار تبدل المعطيات الإقليمية لصالحه. هذه المفارقة تضع لبنان أمام معادلة شديدة التعقيد: إما استثمار اللحظة التاريخية لإطلاق مسار نزع السلاح، أو الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة قد تُجهض أي فرصة للاستقرار.
الضغوط الأميركية: مساعدات مشروطة بالسيادة
تلعب الولايات المتحدة الدور الأكثر تأثيرًا في هذا التحول، إذ تربط بين أي دعم مالي أو عسكري للبنان وبين تقدم ملموس في ملف السلاح غير الشرعي. فقد كشفت مصادر دبلوماسية أن واشنطن أعدت حزمة مساعدات اقتصادية وعسكرية يمكن أن تتجاوز قيمتها مليار دولار، لكنها مشروطة بمدى التزام الحكومة اللبنانية بخطتها لنزع السلاح. كما نقلت تقارير صحفية أميركية أن إدارة ترامب ترى اللحظة الحالية "فرصة تاريخية" لإعادة بناء الدولة اللبنانية، في ظل تراجع قدرات الحزب العسكرية وفقدانه للعمق الاستراتيجي السوري.
كذلك تكثفت الضغوط الأمريكية على الحكومة اللبنانية منذ توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024، حيث شهدت الأسابيع الأخيرة زيارات متكررة لمبعوثين أمريكيين إلى بيروت. هذا التحرك الأمريكي يندرج ضمن استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال إضعاف أذرعه العسكرية.
مقايضة إسرائيلية مشروطة
بالتوازي مع الضغوط الأميركية، أبدت إسرائيل استعداداً لتقليص وجودها العسكري في النقاط الحدودية الجنوبية، وهو ما عكسه تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي في 26 أغسطس 2025 بأن "انسحاباً تدريجياً من بعض المواقع الحدودية وارد، شرط أن يوازيه تحرك لبناني جدي لضبط السلاح". وتُظهر هذه التصريحات استعداد إسرائيل للتجاوب مع مبادرات الدولة اللبنانية، لكنها تشترط ضمانات أمنية ملموسة، مما يضع ملف نزع السلاح في قلب مقايضة معقدة بين الانسحاب الإسرائيلي وإثبات جدية الدولة اللبنانية.
فرصة اقتصادية مشروطة بالاستقرار
على الصعيد العربي، تبدي دول الخليج ـ وعلى رأسها السعودية والكويت وقطر ـ استعداداً لتوفير دعم مالي واسع للبنان إذا أثبتت الحكومة جديتها في استعادة القرار السيادي. وقد كشفت تقارير إعلامية في 25 أغسطس أن اجتماعاً خليجياً غير معلن في الرياض بحث سبل دعم لبنان مالياً، لكن بشرط نجاح الحكومة في تقديم خطة واضحة لنزع السلاح وإعادة الاعتبار لدور الجيش. ويُنظر إلى هذا الدعم كحافز إضافي للبنان الغارق في أزمة اقتصادية خانقة، حيث وصل معدل التضخم إلى مستويات قياسية تجاوزت 200% في يوليو 2025.
تمديد أخير لليونيفيل
أما على المستوى الأممي، فقد اتخذ مجلس الأمن في 27 أغسطس 2025 قراراً وصف بأنه "نوعي"، يقضي بتمديد ولاية قوات "اليونيفيل" للمرة الأخيرة، على أن تبدأ عملية انتقال تدريجية لتسليم مسؤولية الجنوب إلى الجيش اللبناني بحلول نهاية عام 2026. هذا القرار يعكس نفاد صبر المجتمع الدولي من استمرار الجمود، ورغبته في إنهاء ملف الجنوب ضمن تسوية شاملة تضمن سيطرة الدولة اللبنانية الكاملة على أراضيها.
موقف حزب الله وإيران
في المقابل، يواجه حزب الله هذه التطورات بموقف رافض وحاد، إذ وصف أي محاولة لنزع سلاحه بأنها "خدمة مباشرة للمشروع الإسرائيلي". وقد أكد الأمين العام للحزب في خطاب بتاريخ 28 أغسطس أن "المقاومة باقية ولن تُسلم سلاحها تحت أي ظرف"، محذراً من أن "أي اعتداء على سلاح المقاومة سيعتبر اعتداءً على لبنان بأسره". وتزامن هذا الموقف مع تصريحات لمسؤولين إيرانيين ـ بينهم وزير الخارجية الإيراني ـ بأن طهران "لن تسمح بخطوات تمس نفوذها المباشر في المشرق". هذه المواقف تبرز بوضوح استمرار البُعد الإقليمي للأزمة، وتُظهر أن أي تحرك لبناني داخلي سيظل مرتهناً بردود فعل طهران وحزب الله.
إجمالاً، إن تلاقي هذه المعطيات الدولية والإقليمية يُنتج ظرفاً استثنائياً يمكن أن يُنظر إليه من زاويتين:
- فرصة تاريخية للبنان لإعادة بناء دولته على قاعدة سيادة فعلية، إذا نجحت الحكومة في استثمار الدعم الدولي والعربي لصالح مشروع وطني جامع.
- مخاطر تصعيدية إذا أصر الحزب وإيران على رفض أي تسوية، ما قد يقود إلى مواجهة مباشرة أو إلى انهيار الخطة اللبنانية قبل أن ترى النور.
وبين هذين المسارين، يبقى لبنان أمام معادلة معقدة: هل يتمكن من اغتنام الفرصة لإطلاق مسار واقعي نحو نزع السلاح، أم أن الملف سيتحول إلى ورقة إضافية في لعبة التوازنات الإقليمية، لتعود الأزمة إلى نقطة الصفر.
ثالثاً- المعوقات الداخلية لتطبيق القرار
غياب الإجماع السياسي والانقسام الطائفي
تشكل الانقسامات السياسية والطائفية أحد أبرز المعوقات أمام أي محاولة لنزع سلاح حزب الله. فالمشهد السياسي اللبناني لا يزال منقسما بعمق؛ فمن ناحية، تيار واسع من القوى السياسية (مثل "القوات اللبنانية" و"الكتائب" وحلفائهما) يرى أن سلاح الحزب تحول إلى أداة صراع إقليمي تخضع للأجندة الإيرانية أكثر مما تخدم المصلحة الوطنية. في المقابل، تعتبر قوى أخرى، وعلى رأسها حركة أمل والتيار الوطني الحر، أن سلاح الحزب لا يزال يمثل عنصراً أساسياً في معادلة الدفاع الوطني، وأن نزعه في الظروف الحالية سيترك لبنان مكشوفًا أمام إسرائيل.
هذا الانقسام يتجاوز كونه خلافاً سياسياً إلى كونه جزءاً من البنية الطائفية للنظام اللبناني، حيث يسيطر حزب الله وحلفاؤه على التمثيل الشيعي في البرلمان والحكومة بشكل شبه كامل، مما يمنحه القدرة على تعطيل أي قرار يمس سلاحه. وقد ظهر ذلك بوضوح حين وصف الحزب قرار الحكومة الأخير بـ"الخطيئة الكبرى"، معلناً رفضه المطلق للتعامل معه، وهو ما يشي بأن أي مسعى رسمي لنزع السلاح سيصطدم بجدار سياسي داخلي صلب.
ضعف مؤسسات الدولة:
يكمن التحدي الثاني في ضعف المؤسسات الرسمية اللبنانية، وفي مقدمتها الجيش اللبناني الذي يفترض أن يكون الجهة المنوط بها تنفيذ خطة نزع السلاح.
وفقاً لتصنيف Global Firepower لعام 2025، جاء الجيش اللبناني في المرتبة 115 عالمياً، بقدرات محدودة للغاية (116 دبابة، 11 راجمة صواريخ، وعدد محدود من الطائرات الحربية). حيث يعتمد الجيش بشكل شبه كامل على الدعم الخارجي (أميركي، فرنسي، وبدرجة أقل خليجي). وقد دعا الرئيس اللبناني جوزيف عون في مطلع أغسطس 2025 إلى خطة دعم دولي طويلة الأمد بقيمة مليار دولار سنوياً لعشر سنوات، بغرض إعادة بناء قدرات الجيش وتحديث تسليحه.
مقارنة بهذه القدرات، يمتلك حزب الله ترسانة عسكرية غير تقليدية، تتراوح تقديراتها بين 120 و150 ألف صاروخ، إضافة إلى خبرات ميدانية متراكمة من حروبه في سوريا واليمن والعراق. هذا الخلل البنيوي في موازين القوة يجعل أي مواجهة مباشرة بين الجيش والحزب محفوفة بخطر الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة.
الفراغ الخدماتي والشرعية الاجتماعية للحزب
إلى جانب قوته العسكرية، يتمتع حزب الله بشرعية اجتماعية راسخة، مستمدة من دوره كمزود بديل للخدمات الأساسية عبر مؤسساته مثل مؤسسة القرض الحسن و"الهيئة الصحية الإسلامية"، يقدم الحزب قروضاً مالية ميسرة، وخدمات طبية وتعليمية، ورعاية اجتماعية واسعة النطاق لمجتمعه.
كذلك في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها لبنان (حيث بلغ معدل التضخم أكثر من 200% منتصف 2025، وانخفضت قيمة الليرة إلى مستويات قياسية)، ازدادت أهمية هذه الشبكة التي تشكل مظلة أمان اجتماعي لشريحة واسعة من المواطنين، خاصةً في البيئة الشيعية.
وهذا الواقع يجعل عملية نزع السلاح ليست مجرد "مصادرة للعتاد"، بل تفكيك لبنية شبه-دولتية متكاملة، تحتاج الدولة اللبنانية إلى بدائل فاعلة لملء الفراغ الأمني والخدماتي الذي قد يخلفه تراجع الحزب. وإلى الآن، لم تظهر الدولة اللبنانية قدرة على لعب هذا الدور، وهو ما يعزز من صعوبة فرض نزع السلاح.
من هنا يمكن القول، إن قرار الحكومة اللبنانية بتكليف الجيش إعداد خطة لنزع السلاح وضعها أمام معضلة مزدوجة: خيار التنفيذ بالقوة قد يقود إلى صدام مسلح مع الحزب، تتسع رقعته سريعاً إلى حرب أهلية جديدة، خاصة في ظل الانقسام الطائفي الحاد. وخيار التراخي وعدم التنفيذ سيكشف ضعف الدولة ويؤدي إلى فقدان مصداقيتها أمام المجتمع الدولي، ما قد يترتب عليه وقف الدعم المالي والعسكري للبنان، في وقت هو بأمسّ الحاجة إليه. هذه المعضلة تضع لبنان في موقع حرج، حيث تبدو الدولة أسيرة خياراتها المستحيلة؛ فهي عاجزة عن فرض سيادتها بالقوة، وغير قادرة على التراجع دون أن تدفع ثمناً سياسياً واقتصادياً فادحاً.
رابعاً- نزع السلاح وإمكانات التطبيع
ثمة بعد استراتيجي بالغ الأهمية يتمثل في ارتباط ملف نزع السلاح بإمكانات التطبيع مع إسرائيل. ففي الحسابات الأميركية والإسرائيلية، لا يمكن الحديث عن أي مسار تطبيع مع لبنان بوجود قوة مسلحة خارج الدولة ترفع شعار المقاومة. نزع سلاح حزب الله يصبح بالتالي شرطاً لازماً لفتح الباب أمام تفاهمات أمنية وربما اقتصادية بين بيروت وتل أبيب. بعض المؤشرات الأخيرة، مثل استعداد إسرائيل لربط تقليص ضرباتها بخطوات لبنانية ميدانية، تدل على أن ثمة مقايضة غير معلنة: كلما تقدم لبنان في ملف السلاح، كلما ارتفع احتمال الدخول في مسار تطبيع تدريجي، يبدأ بخطوات تقنية مثل التعاون في ملف الغاز البحري وينتهي ربما باتفاق سياسي.
لكن هذا المسار يواجه عقبات كبرى. داخلياً، الشارع اللبناني لا يزال منقسماً بشدة حول التطبيع، بل إن جزءاً كبيراً يرفضه لأسباب قومية وتاريخية. وإقليمياً، إيران وحلفاؤها سيعتبرون أي اقتراب لبناني من التطبيع خيانة لمحور المقاومة وضربة استراتيجية مباشرة لهم. لذا، فإن الربط بين نزع السلاح والتطبيع قد يجعل الملف أكثر حساسية بدل أن يسهل حله، إذ يتحول من قضية سيادة داخلية إلى ورقة في صراع عربي إيراني أشمل.
خامساً- السيناريوهات المستقبلية بين الفرص والمخاطر
انطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمآلات الخطة اللبنانية حتى نهاية 2025 وما بعدها:
1- السيناريو الدبلوماسي التدريجي:
تعتمد هذه المقاربة، التي تقودها الولايات المتحدة عبر مبادرات مثل "خطوة مقابل خطوة"، على الإقناع وتقديم حوافز اقتصادية واجتماعية ملموسة (إعادة إعمار الجنوب، توفير وظائف) مقابل تنازلات من الحزب. تتضمن الخطة أيضاً انسحاباً إسرائيلياً تدريجياً من الأراضي اللبنانية المحتلة. وقد اقترح المبعوث الأمريكي توم باراك "نزع السلاح الانتقائي" والتمييز بين الأجنحة العسكرية والسياسية للحزب في محاولة لفتح باب التفاوض ، إلا أن هذا النهج قوبل بالرفض من قبل وزارة الخارجية الأمريكية وإسرائيل التي لا تميز بين جناحيه وتعتبره منظمة إرهابية موحدة.
2- سيناريو الجمود والمماطلة:
يعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحاً على المدى القصير، حيث سيستمر حزب الله في ممارسة نفوذه السياسي لعرقلة أي تقدم حقيقي في ملف نزع السلاح، مستخدماً حجج ضعف الدولة وعدم تنفيذ إسرائيل لالتزاماتها. ما قد يعيد إنتاج "توازن الهشاشة" الذي شهدته لبنان في العقدين الأخيرين، حيث لا حرب ولا تسوية.
3- السيناريو الانفجاري:
وهو الأقل احتمالاً لكنه الأخطر، ويتمثل في دخول الدولة في مواجهة عسكرية مع الحزب بدعم خارجي. هذا السيناريو ستكون كلفته هائلة على لبنان، إذ يهدد باندلاع حرب أهلية جديدة وانهيار مؤسسات الدولة، لكنه يبقى قائماً كخيار أخير إذا ما أصرت الأطراف الدولية على فرض الحل بالقوة.
ختاماً، لقد تحولت إشكالية نزع السلاح من حالة ركود مستمرة إلى سباق مع الزمن، فالمتغيرات الإقليمية تضغط باتجاه حل، كما أن قرار مجلس الأمن بتمديد ولاية اليونيفيل لـ"المرة الأخيرة" حتى نهاية 2026 يضع حداً زمنياً للجمود الدائم. هذا يفرض على جميع الأطراف التعامل مع المسألة بجدية غير مسبوقة. وفي هذا السياق، تواجه الأطراف الفاعلة مفاضلة بين الحلول. فالنهج الدبلوماسي الجديد، على الرغم من تعقيده، يُعتبر أكثر فعالية لأنه يستهدف الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل أساس قوة الحزب. في المقابل، قد تبدو الحلول العسكرية "أسهل" في ظل الجمود، لكنها تنطوي على مخاطر كارثية على لبنان والمنطقة.