قراءة حول الاستهداف الإسرائيلي لوفد حماس في الدوحة

في التاسع من سبتمبر 2025، شهدت العاصمة القطرية الدوحة حدثًا نوعيًا غير مسبوق حين نفذت إسرائيل ضربة جوية دقيقة استهدفت اجتماعًا لقيادات من حركة حماس. العملية التي أُعلن عنها رسميًا من قبل تل أبيب، وحملت تسمية إعلامية عبرية وغربية لافتة هي "قمة النار / Summit of Fire"، لم تمر مرور الكرام لا على الصعيد الإقليمي ولا على المستوى الدولي. فبينما أعلنت حماس أن قياداتها العليا نجت من محاولة الاغتيال، لكنها فقدت عددًا من المرافقين البارزين ومن بينهم نجل قيادي ومسؤولون مقربون، سارعت قطر إلى إدانة العملية ووصفتها بانتهاك سافر للسيادة، فيما عبرت واشنطن عن قلقها العلني من انعكاسات الضربة على مسار الوساطة الجارية لوقف إطلاق النار في غزة. بهذا، خرجت العملية من نطاقها العسكري الضيق إلى مساحة سياسية واستراتيجية أوسع، بما يجعلها محطة فاصلة في طبيعة الاشتباك الإسرائيلي – الفلسطيني وتقاطعاته مع الوسطاء الإقليميين والدوليين.
أولاً- الدلالات والتوقيت والرسائل الاستراتيجية
حملت العملية الإسرائيلية أبعادًا استراتيجية أعمق بالنظر إلى توقيتها ومكانها والجهة التي أعلنت تنفيذها. فالاستهداف داخل الدوحة، وفي لحظة حساسة يجري فيها النقاش حول مقترح أميركي لوقف إطلاق النار، يعكس قرارًا إسرائيليًا واعيًا بتجاوز ما كان يُعرف بخطوط الحماية الدبلوماسية التقليدية، حيث فضلت تل أبيب توجيه رسالة مفادها أن الأولوية المطلقة لمقتضيات الردع والأمن، حتى لو عنى ذلك ضرب أهداف داخل أراضٍ لدولة وسيطة.
العملية لم تكن مجرد حدث تكتيكي محدود، بل اتخذت منذ لحظتها الأولى أبعادًا استراتيجية مركبة. اختيار المكان -قلب العاصمة القطرية التي تستضيف وتدير قنوات الوساطة- والزمان -في ظل مناقشة اقتراح أميركي لوقف إطلاق النار- أعطى العملية بعدًا رمزيًا ورساليًا شديد الوضوح. فقد أرادت إسرائيل القول إن أمنها القومي وحقها في استهداف قيادات حماس يتقدمان على أي اعتبارات دبلوماسية تقليدية، حتى لو كانت هذه الاعتبارات مرتبطة بحلفاء استراتيجيين أو وسطاء مؤثرين في الساحة الدولية.
رسائل إسرائيل كانت مزدوجة. داخليًا، أرادت الحكومة أن تؤكد للجمهور الإسرائيلي أنها قادرة على ممارسة سياسة «الردع بلا حدود»، بحيث لا توجد خطوط حمراء أمام عمليات الاستهداف، سواء كانت القيادات في غزة أو في العواصم العربية. تصريحات نتنياهو ومسؤولين بارزين بأن «لا حصانة لأحد» عكست هذا التوجه العلني الذي يستهدف طمأنة الداخل وتحصين الحكومة أمام الانتقادات المتصاعدة بشأن طول أمد الحرب واتساع التهديدات. أما خارجيًا، فقد حملت العملية إنذارًا مزدوجًا للوسطاء ولحماس: للدوحة وواشنطن أن إسرائيل ستتحرك منفردة إذا شعرت بتهديد أمني استراتيجي، ولحماس أن قياداتها ليست محمية حتى في أوقات التفاوض أو في أماكن يفترض أنها آمنة دبلوماسيًا.
التوقيت بدوره يكشف عن تعمد سياسي. فبينما كانت واشنطن تدفع بمقترح لوقف إطلاق النار، جاءت الضربة كرسالة واضحة للبيت الأبيض بأن إسرائيل لا ترى نفسها ملزمة بخط زمني أو رؤية تفاوضية إذا تعارضت مع أولوياتها الأمنية. تقارير أشارت إلى أن البيت الأبيض حاول تحذير الدوحة مسبقًا عبر قنوات دبلوماسية، بينما نفت قطر علمها بالأمر. هذا التضارب في السرديات كشف عن فجوة ثقة خطيرة بين أطراف الوساطة، وأثار شكوكًا لدى الدوحة وشركاء خليجيين آخرين حول جدوى الضمانات الأميركية ومدى احترام إسرائيل للتنسيق المسبق.
ثانياً- التداعيات المباشرة على مسارات الموقف:
أ. المفاوضات وجهود وقف النار
كانت محاولة الاغتيال بمثابة ضربة قاسية لثقة الأطراف في مسار الوساطة. فمن الناحية العملية، تم استهداف اجتماع كان مخصصًا لمناقشة الاقتراح الأميركي، ما جعل أي طرف مترددًا في المضي قدمًا أو تقديم تنازلات وسط أجواء محفوفة بالخطر. وبالتالي، أصبح من المنطقي أن يشهد مسار التفاوض شللاً مؤقتًا، وهو ما عكسته التصريحات القطرية عن تعليق المحادثات إلى حين إعادة ضبط الوضع. هذا التعليق لا يمثل فقط تأجيلًا زمنيًا، بل يضيف طبقة جديدة من التعقيد، إذ يتطلب من الوسطاء إعادة بناء الثقة بين الأطراف وإقناع الوفود بأن التفاوض في الدوحة آمن وذي جدوى.
ب. موقف حماس وخياراتها الاستراتيجية
حماس بدت أمام معضلة مركبة. من جهة، استطاعت قيادتها العليا النجاة من محاولة الاغتيال، ما أتاح لها فرصة تقديم الحادث كدليل على «الفشل الإسرائيلي»، لكنها في الوقت نفسه تكبدت خسائر بشرية رمزية في صفوف المرافقين. هذا الواقع قد يدفع الحركة إلى أحد خيارين: إما رفع سقف مطالبها التفاوضية والتمسك بموقف أكثر تشددًا مستفيدة من التعاطف الإقليمي والدولي، أو اللجوء إلى رد عسكري مدروس لإثبات قدرتها على الردع. الاحتمال الثاني يبدو واردًا في ظل الضغوط الداخلية والرمزية على الحركة، إذ أن بقائها في حالة صمت قد يُفسر كعجز. لذلك يبقى احتمال التصعيد عبر وكلاء أو عبر عمليات نوعية ضد أهداف إسرائيلية قائمًا، وإن كان مرتبطًا بحسابات معقدة حول التوقيت وحجم الموارد المتاحة.
ج. الموقف القطري والخيارات المتاحة أمام الدوحة
قطر بدت الأكثر حرجًا في هذا المشهد. فهي من جهة تسعى لحماية سيادتها وسمعتها كوسيط محايد، ومن جهة أخرى لا تريد خسارة موقعها المركزي كقناة تفاوضية أساسية. إداناتها السريعة والشديدة اللهجة، مع إعلانها «الاحتفاظ بحق الرد»، عكست محاولة للجمع بين هذين الاعتبارين. لكن على مستوى الأفعال، تملك الدوحة خيارات محدودة تتراوح بين خطوات دبلوماسية (مثل تعليق الوساطة مؤقتًا، أو تصعيد المسار الأممي والقانوني ضد إسرائيل)، وإجراءات رمزية (إغلاق بعثات أو طرد دبلوماسيين)، وصولًا إلى سياسات إقليمية بالتنسيق مع شركاء خليجيين وعرب للضغط على إسرائيل. بيد أن التوتر مع واشنطن حول مسألة الإبلاغ المسبق قد يضع الدوحة في موقف تفاوضي أصعب، سيما أن أي فقدان للثقة في الوسيط قد يُقوض دورها الإقليمي.
د. غزة والمشهد الإنساني والإقليمي
العملية لم تأتِ في فراغ، بل تزامنت مع لحظة إنسانية حرجة في غزة، حيث تقارير أممية تحذر من خطر مجاعة وشيكة في ظل أوامر إخلاء واسعة ونقص في الإمدادات. أي تعطيل للمفاوضات يترجم مباشرة إلى تدهور إضافي في الوضع الإنساني. على المستوى الإقليمي، قد تجد دول عربية نفسها مضطرة لمواقف أكثر حدة ضد إسرائيل دعمًا لقطر، وهو ما قد ينعكس في المحافل الدولية أو عبر ضغوط اقتصادية وسياسية. بهذا، يمكن القول إن العملية زادت من احتمالات انزلاق الأزمة من كونها نزاعًا فلسطينيًا – إسرائيليًا إلى كونها أزمة إقليمية ذات أبعاد متعددة.
ثالثاً- السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول: تجميد الوساطة وتضرر الدور القطري (الأكثر ترجيحًا)
من المرجح أن تؤدي الضربة إلى تجميد مؤقت للوساطة القطرية. فالدوحة ستطالب بضمانات واضحة لعدم تكرار الاعتداءات، فيما سيضغط الوسطاء الغربيون على إسرائيل سياسيًا ودبلوماسيًا لاحتواء الموقف. النتيجة المحتملة هي تأجيل أي اتفاق لوقف إطلاق النار وترك الساحة العسكرية مفتوحة لأسابيع، مع تدهور إضافي للأوضاع الإنسانية في غزة.
السيناريو الثاني: رد قطري رمزي ودبلوماسي قوي مع كبح عسكري
قد تختار الدوحة مسارًا مدروسًا يقوم على حشد دعم أممي ودولي، وربما اتخاذ إجراءات سياسية محدودة ضد إسرائيل مثل طرد دبلوماسي أو تعليق تعاون أمني. لكن من المستبعد أن تلجأ لرد عسكري مباشر خشية تفجير مواجهة إقليمية أوسع. هذا السيناريو يحافظ على موقعها كوسيط لكنه يضعف مؤقتًا ثقة الأطراف في أمان العملية التفاوضية.
السيناريو الثالث: تصعيد اقليمي محدود
وارد أن تقوم فصائل مرتبطة بمحور المقاومة مثل الحوثيين أو جماعات موالية لإيران بتصعيد محدود، سواء عبر هجمات صاروخية أو استهداف سفن. مثل هذه التحركات قد تدفع المنطقة إلى حافة مواجهة أوسع، خصوصًا في ظل حساسية الوضع في البحر الأحمر والخليج. هذا السيناريو يظل أقل احتمالًا لكنه يحمل تأثيرًا استراتيجيًا كبيرًا في حال وقوعه.
السيناريو الرابع: حماس تعتمد التهدئة كتكتيك سياسي
بدل الانجرار إلى تصعيد مفتوح، قد تستغل حماس الغضب الإقليمي والدولي لتعزيز موقعها التفاوضي ثم تعود إلى الطاولة بشروط أعلى. مثل هذا الخيار يتناسب مع حسابات الحركة التي تواجه ضغوطًا داخلية متنامية ونقصًا في الموارد العسكرية.
السيناريو الخامس: تداعيات داخلية إسرائيلية وإعادة تشكيل الأولويات
داخليًا، قد تعزز العملية موقف الحكومة أمام الرأي العام الإسرائيلي بوصفها ضربة حازمة. لكنها قد تزيد من الضغوط الدولية على تل أبيب وتوسع الفجوة مع شركاء استراتيجيين مثل واشنطن والاتحاد الأوروبي. هذا التناقض قد يفرض على إسرائيل إعادة ترتيب أولوياتها الخارجية وتعاملها مع ملفات العلاقات العربية والاقليمية.
مجمل القول، تُظهر عملية استهداف وفد حماس في الدوحة أن النزاع لم يعد مقصورًا على الجغرافيا التقليدية لغزة أو الجنوب اللبناني، بل تمدد إلى قلب العواصم التي تُفترض أنها فضاءات للوساطة الدبلوماسية. بذلك، تكون إسرائيل قد دشنت سلوكًا جديدًا عنوانه «لا حصانة حتى في قلب الوساطة»، وهو ما يفتح الباب أمام تحولات أوسع في طبيعة النزاع. تداعيات العملية تمس ثلاثة مستويات متداخلة: الأول هو مسار المفاوضات المباشرة الذي أصيب بالشلل، والثاني هو موقع حماس بين الحاجة للردع والحاجة للحفاظ على قنوات تفاوضية، والثالث هو دور قطر الذي يواجه اختبارًا وجوديًا. السيناريوهات المحتملة تتراوح بين التجميد المؤقت والتصعيد الإقليمي، لكن المؤكد أن العملية تمثل محطة فارقة ستترك آثارًا عميقة على التوازنات الاقليمية وعلى صورة الولايات المتحدة كضامن للوساطة. وفي المحصلة، فإن الحدث يؤشر إلى مرحلة جديدة في مسار الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، حيث تتجاوز العمليات العسكرية حدودها المباشرة لتصبح أدوات ضغط استراتيجي على طاولة التفاوض نفسها.