الخطة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية .. قراءة تحليلية في مشروع التهجير والهندسة الاستعمارية الجديدة

مركز سياسات للبحوث والدراسات الاستراتيجية

كشفت تقارير صحفية غربية عن اجتماع عقد في البيت الأبيض جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بصهره جاريد كوشنر ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إلى جانب مسؤولين إسرائيليين، لمناقشة ما سمي بـ"خطة اليوم التالي". الاجتماع الذي جاء في ظل التدمير الشامل الذي طال القطاع، سلط الضوء على ملامح خطة أمريكية إسرائيلية تهدف إلى وضع غزة تحت وصاية أمريكية لعشر سنوات على الأقل، وتحويلها إلى مركز استثماري وسياحي تحت عنوان "ريفييرا الشرق الأوسط"، مع طرح مقترحات لتهجير سكانها عبر حوافز مالية. اللافت أن الفلسطينيين أنفسهم كانوا الغائب الأكبر عن هذه المداولات، ما أثار تساؤلات واسعة حول طبيعة الخطة التي ينظر إليها على نطاق واسع باعتبارها محاولة لتصفية القضية الفلسطينية تحت غطاء إعادة الإعمار والتنمية.

إن الهجوم الإسرائيلي الواسع على غزة منذ أكتوبر 2023 قد وفر المناخ المناسب لطرح "خطة اليوم التالي". التدمير شبه الكامل للبنية التحتية، والنزوح الجماعي، والمجاعة التي خلفها الحصار، كل ذلك جعل من القطاع مساحة مهيأة لخطاب "إعادة الإعمار"، وهو خطاب جُرب سابقاً في العراق وأفغانستان وليبيا. ما يميز الحالة الفلسطينية أن الاحتلال هو من يقترح الإعمار، والولايات المتحدة هي من تتبنى الإشراف، بينما الشعب المعني غائب عن الطاولة، في مشهد يعيد إنتاج الذهنية الاستعمارية الكلاسيكية.

أولاً- ملامح الخطة الأمريكية الترامبية

الاستثمار كغطاء للتهجير

الخطة التي نشرت تفاصيلها واشنطن بوست تستند إلى رؤية ترامب التي طرحها مراراً بتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". إذ يتعامل مع غزة باعتبارها موقعاً جغرافياً استراتيجياً على البحر المتوسط، يمكن تحويله إلى مركز سياحي وتجاري وصناعي يخدم المستثمرين الإسرائيليين والدوليين.

تتحدث الوثيقة المسربة عن مشاريع ضخمة تتراوح بين إقامة مصانع للسيارات الكهربائية ومراكز بيانات عالمية، وبناء منتجعات سياحية وأبراج سكنية على شاطئ غزة. وقدرت الدراسات الاقتصادية المرافقة أن استثماراً أولياً بقيمة 100 مليار دولار يمكن أن يحقق عائداً مضاعفاً أربع مرات خلال عشر سنوات. هذه الأرقام الضخمة تكشف أن المشروع ليس إنسانياً ولا يهدف لإغاثة شعب مدمر، وإنما هو مشروع استثماري استعماري يسعى إلى تحويل مأساة الفلسطينيين إلى فرصة ربحية.

"ترانسفير ناعم" بالحوافز

أحد أخطر أركان الخطة يتمثل في الهندسة الديمغرافية عبر التهجير "الطوعي"، حيث يقترح أن يحصل كل فلسطيني يملك أرضاً في غزة على "رمز رقمي" يمنحه الصندوق الأمريكي المخصص لإعادة التكوين الاقتصادي، يمكن استبداله إما بشقة في واحدة من "مدن ذكية" مستقبلية ستبنى في القطاع، أو باستخدامه لتمويل بداية جديدة في الخارج.

وتضيف الخطة أن من يقرر مغادرة غزة سيعرض عليه مبلغ نقدي بقيمة 5000 دولار، إضافة إلى إعانة لتغطية إيجار أربع سنوات ومؤن غذائية لسنة كاملة. الحسابات الاقتصادية تشير إلى أن كل حالة مغادرة ستوفّر للصندوق نحو 23 ألف دولار مقارنة بكلفة إبقاء الشخص في "المناطق الآمنة" داخل القطاع.

بهذا المنطق، يتحول الإنسان الفلسطيني إلى "تكلفة مالية" يجب تخفيضها، بينما يختزل حقه في الأرض والسيادة إلى قسيمة رقمية أو دفعة نقدية. هذه الآلية لا تختلف عن سياسات التهجير القسري التي عرفتها شعوب أخرى في التاريخ الاستعماري، لكنها هنا تغلف بخطاب حديث عن "الطوعية" و"الفرص الاقتصادية".

الوصاية الأمريكية والغياب الفلسطيني

الخطة لا تقترح فقط إعادة إعمار غزة، بل تنص على أن القطاع يوضع تحت وصاية أمريكية مباشرة لمدة عشر سنوات على الأقل، مع ضمان السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة. هذا يعني أن الفلسطينيين سيحرمون عملياً من أي دور سياسي في إدارة شؤونهم، بينما يعاد تشكيل نظام الحكم تحت إشراف أمريكي–إسرائيلي، مع مشاركة محدودة لبعض الأطراف العربية التي تُقبل كواجهة تنفيذية.

اللافت أن الخطة لم تشر إلى السلطة الفلسطينية إلا بوصفها جسماً ضعيفاً يمكن الاستعانة به لاحقاً، وهو ما يعكس رغبة واشنطن وتل أبيب في تجاوزها تماماً. وبذلك، فإن "اليوم التالي" ليس مشروعاً لإقامة كيان فلسطيني مستقل، وإنما لترسيخ واقع فلسطين المقطعة والمشلولة: غزة تحت وصاية اقتصادية – أمنية، والضفة تُضم تدريجياً لإسرائيل.

ثانياً- الأطراف الفاعلة في صياغة الخطة

الولايات المتحدة: الراعي والمهندس

منذ عقود تمثل الولايات المتحدة الطرف الأكثر تأثيراً في مسار القضية الفلسطينية، لكن ما يميز الخطة الترامبية هو أنها تخلت عن أي ادعاء بالحياد أو الوساطة. إدارة ترامب طرحت نفسها كصاحبة القرار المباشر في تحديد مستقبل غزة، بل وذهبت أبعد من ذلك حين اقترح ترامب نفسه أن تكون الولايات المتحدة الوصي المباشر على القطاع لعقد كامل. هذا الطرح يعكس ذهنية استعمارية حديثة، إذ لم يعد الأمر مقتصراً على دعم إسرائيل سياسياً وعسكرياً، بل انتقل إلى مرحلة إدارة الأرض والسكان بشكل مباشر تحت غطاء دولي هش.

الدافع الأمريكي هنا متعدد الأبعاد:

  • البعد الاستراتيجي: ضمان أمن إسرائيل عبر تفكيك أي إمكانية لعودة المقاومة الفلسطينية، سيما حماس، إلى السيطرة على القطاع.
  • البعد الاقتصادي: تحويل غزة إلى مشروع استثماري ضخم يشكل فرصة للشركات الأمريكية وحلفائها في مجالات التكنولوجيا والعقارات والطاقة.
  • البعد السياسي الداخلي: رغبة ترامب في تقديم "إنجاز خارجي" لجمهوره الانتخابي يقوم على خطاب "إحلال السلام عبر التنمية"، بينما هو في الحقيقة إعادة إنتاج للتطهير العرقي بأسلوب ناعم.

إسرائيل: المستفيد الأول وصاحب الرؤية

إذا كانت الولايات المتحدة هي الراعي، فإن إسرائيل هي المستفيد الأول وصاحبة الرؤية الفعلية للخطة. التقارير كشفت أن تفاصيل الوثيقة الترامبية صاغها إسرائيليون في الأصل، من خلال "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة أمريكياً وإسرائيلياً. بل إن فكرة تحويل غزة إلى "ريفييرا" ليست جديدة، فقد طرحتها حكومة نتنياهو قبل سنوات كجزء من خطابها الدعائي عن "السلام الاقتصادي".

بهذا، إسرائيل تسعى عبر هذه الخطة إلى تحقيق أهداف استراتيجية كبرى:

  • إفراغ غزة من سكانها أو تقليصهم إلى حد يمكن السيطرة عليه، بما يضمن إنهاء أي تهديد ديمغرافي.
  • تكريس السيطرة الأمنية الكاملة على القطاع، مع تحميل الولايات المتحدة المسؤولية الإدارية والإنسانية، مما يخفف العبء عن إسرائيل ويُبعد عنها الانتقادات الدولية.
  • توسيع المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية دون ضغوط، بحجة أن غزة باتت "محلولة" عبر الوصاية الأمريكية.

بهذا تصبح إسرائيل اللاعب الأكثر ربحاً، فهي تخرج من غزة شكلياً، لكنها تبقى مهيمنة عليها عملياً، وتواصل ضم الضفة بلا معوقات.

توني بلير: "خبير" تفكيك الدول

عودة توني بلير إلى المشهد ليست تفصيلاً يمكن تجاوزه، الرجل الذي ارتبط اسمه بالغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003، وما تبعه من انهيار شامل للدولة العراقية ومقتل مئات الآلاف، يُستدعى اليوم بصفته "خبيراً" في إدارة المراحل الانتقالية بعد الحروب. بلير عمل لسنوات مبعوثاً للرباعية الدولية في فلسطين، لكنه لم يحقق أي اختراق، بل وُجهت له اتهامات فلسطينية بأنه ساهم في تكريس الانقسام وإدامة السيطرة الإسرائيلية عبر خطاب "السلام الاقتصادي".

إن دوره في هذه الخطة يمكن اعتباره ضمن سياق تقديم الرؤية البريطانية التقليدية لإدارة المستعمرات؛ إعادة الإعمار تحت السيطرة الأجنبية، مع تهميش السكان المحليين. حضوره إلى جانب كوشنر وترامب ورون ديرمر (الوزير الإسرائيلي) في البيت الأبيض، يكشف أن واشنطن لا تكتفي بصياغة الخطة منفردة، بل تستعين بخبرات استعمارية سابقة لضمان نجاحها. إن إشراك بلير يحمل رمزية خطيرة، فهو بمثابة شهادة بأن ما يجري في غزة اليوم امتداد لسياسات الغرب التي مزقت العراق وليبيا وأفغانستان، وأن غزة تتحول بدورها إلى ساحة لتجارب الهندسة الاستعمارية.

ثالثاً- المقارنة التاريخية مع التجارب السابقة

العراق: "إعادة الإعمار" بوصفها غطاء للتفكيك

حين قادت الولايات المتحدة وبريطانيا غزو العراق عام 2003 تحت شعار "إسقاط الديكتاتورية وإعادة بناء الديمقراطية"، رفعت شعارات براقة عن الإعمار والتنمية. لكن الواقع كشف أن "إعادة الإعمار" لم تكن سوى غطاء لعملية تفكيك الدولة العراقية: حلّالجيش، تدمير البنية المؤسسية، خصخصة الاقتصاد لصالح شركات أمريكية وبريطانية، وفتح الباب أمام الفوضى الطائفية والسياسية. النتيجة كانت انهياراً شاملاً مكن تنظيمات متطرفة مثل "داعش" من ملء الفراغ. هذا السيناريو يعيد نفسه اليوم في غزة، حيث يتم تسويق مشروع "إعادة البناء" عبر استثمارات عملاقة، بينما الهدف الحقيقي هو إزالة البنية السياسية الوطنية الفلسطينية وتحويل الأرض إلى فضاء استثماري تحت وصاية أجنبية، في غياب أي تمكين حقيقي للشعب الفلسطيني.

أفغانستان: التنمية الموعودة التي تحولت إلى استعمار مقنع

بعد غزو أفغانستان عام 2001، وعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها بإنشاء دولة حديثة عبر ضخ المليارات في مشاريع تنموية. لكن هذه الأموال ذهبت في معظمها إلى شركات أمنية خاصة وشبكات فساد مرتبطة بالنخب الموالية للغرب. البنية التحتية بقيت هشة، والفقر ظل سائداً، وحين انسحبت القوات الأمريكية عام 2021، انهارت الدولة سريعاً وعادت حركة طالبان إلى السيطرة الكاملة. هذه التجربة تكشف أن مشاريع "الإعمار" دون سيادة وطنية حقيقية ليست سوى استعمار مقنع، ينهار بمجرد تراجع القوة الأجنبية الداعمة. غزة اليوم تُوضع على المسار ذاته؛ مشاريع استثمارية ضخمة، دون سيادة فلسطينية، تحت وصاية أمريكية – إسرائيلية، وهو ما يعني أن الاستقرار الموعود سيكون هشاً وزائفاً، لأن جذور الصراع لم تحل.

ليبيا: من "التدخل الإنساني" إلى دولة الفوضى

إن التدخل الغربي في ليبيا عام 2011 رُوج له باعتباره "عملية إنقاذ إنسانية" تهدف لحماية المدنيين من القمع. لكن بعد إسقاط النظام، تُركت ليبيا نهباً للفوضى، مع انهيار مؤسسات الدولة وانتشار الميليشيات المسلحة. وبدلاً من التنمية والاستقرار، تحولت البلاد إلى ساحة صراع إقليمي ودولي على الموارد والنفوذ. المثال الليبي يوضح بجلاء أن التدخلات الغربية التي تُغلّف بخطاب إنساني غالباً ما تنتهي إلى تفكيك الدول لا إعادة بنائها. غزة، في هذا السياق، مهددة بالمصير ذاته: تدخل بحجة "حماية السكان وإعادة إعمارهم"، لكنه ينتهي إلى اقتلاعهم من أرضهم وتحويلها إلى ساحة نفوذ دولي استثماري.

القاسم المشترك: الهندسة الاستعمارية بوسائل جديدة

ما يجمع بين هذه الحالات الثلاث (العراق – أفغانستان – ليبيا) هو أن الولايات المتحدة وحلفاءها استخدموا خطاباً إنسانياً – تنموياً لإخفاء أهدافهم الاستراتيجية. في العراق كان الهدف السيطرة على النفط وتفكيك قوة إقليمية، في أفغانستان السيطرة على موقع جغرافي حساس، وفي ليبيا ضمان النفوذ على موارد الطاقة. واليوم في غزة، يُستخدم خطاب "التنمية والازدهار" لإخفاء مشروع أكثر خطورة؛ التصفية النهائية للقضية الفلسطينية عبر التهجير والهندسة الاقتصادية.

رابعاً- التداعيات المتوقعة حال تطبيق للخطة

التداعيات على الفلسطينيين

تمثل الخطة الأمريكية خطراً وجودياً على الفلسطينيين، إذ تهدد بتحويلهم من شعب صاحب قضية وطنية إلى مجرد ملف إنساني – إعماري يُدار عبر المساعدات والوصاية الدولية.

  • ديمغرافياً؛ التهجير "الطوعي" سيؤدي إلى إفراغ غزة تدريجياً من سكانها أو إعادة حصرهم في مناطق مغلقة، ما يعني عملياً إعادة إنتاج تجربة النكبة عام 1948 ولكن بصيغة معاصرة تُستخدم فيها أدوات مالية رقمية وحوافز اقتصادية بدلاً من العنف المباشر وحده.
  • سياسياً؛ تغييب الفلسطينيين عن المفاوضات يُعيد صياغة معادلة الصراع بحيث يصبحوا متلقين للقرارات لا صانعين لها، ويُقزّم حركتهم الوطنية إلى مستوى إدارة الشؤون الإنسانية بدلاً من التحرر الوطني.
  • اجتماعياً؛ تفكيك البنية المجتمعية في غزة عبر التهجير سيخلق حالة من الاغتراب والصدمة الجماعية، ويهدد بتحويل المجتمع الفلسطيني إلى جاليات متفرقة فاقدة للحاضنة الوطنية الجامعة.

التداعيات على الاقليم

إن تطبيق هذه الخطة سيكون له انعكاسات عميقة على البيئة الاقليمية:

  • مصر والأردن: ستجد القاهرة وعمان نفسيهما أمام ضغوط هائلة. مصر بحكم الجوار الجغرافي يمكن أن تواجه تدفقاً سكانياً محتملاً إذا فُرض التهجير، كما ستتأثر أمنياً بوجود مشاريع استثمارية أمريكية إسرائيلية على حدودها. الأردن، بدوره، سيجد أن أي تهجير إضافي للفلسطينيين يقوض استقراره الديمغرافي والسياسي.
  • الدول العربية الأخرى: الخطة تفتح الباب أمام طرح توطين الفلسطينيين في دول أفريقية وآسيوية فقيرة (مثل إثيوبيا وجنوب السودان وأرض الصومال)، وهو ما سيشكل مصدر توتر دبلوماسي وأمني. كما أن تمرير هذه الخطة عربياً سيعني عملياً القبول بتصفية القضية الفلسطينية مقابل مشاريع اقتصادية عابرة للمنطقة، وهو ما يهدد بتفجير موجات غضب شعبي واسعة.
  • المعادلة الاقليمية: نجاح هذه الخطة سيعني أن إسرائيل لم تعد معزولة، بل أصبحت جزءاً من مشروع إقليمي أكبر قائم على الاستثمار والتنمية تحت الرعاية الأمريكية، مما قد يفتح الباب لتطبيع أوسع لكنه سيكون على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه.
  • التداعيات على مكانة الولايات المتحدة وإسرائيل في النظام الدولي

هنا يبرز تصريح ترامب بأن "إسرائيل كانت أقوى جماعة ضغط رأيتها وكانت لديها سيطرة تامة على الكونغرس، والآن فقدت ذلك – إسرائيل قد تربح الحرب لكنها لا تكسب نفوذاً في عالم العلاقات العامة وهذا يضر بها."

وهذا التصريح يعكس إدراكاً أمريكياً متزايداً أن صورة إسرائيل على المستوى الدولي باتت في تراجع حاد. فبينما تحقق إسرائيل مكاسب عسكرية على الأرض، فإنها تخسر معركة الرأي العام العالمي، حيث تُتهم بارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب، وهو ما يضع حلفاءها الغربيين في مأزق أخلاقي وسياسي.

  • الولايات المتحدة: إذا مضت واشنطن في هذه الخطة، فإنها ستُتهم بالشراكة المباشرة في مشروع استعماري جديد، مما يعمّق صورتها كقوة استعمارية في العالم العربي والإسلامي. هذا سيضعف نفوذها في مناطق أخرى كأفريقيا وآسيا اللتين تشهدان منافسة شرسة مع الصين وروسيا.
  • إسرائيل: رغم المكاسب العسكرية المحتملة، فإن إسرائيل تخسر شرعيتها الأخلاقية يوماً بعد يوم، حتى داخل الأوساط الغربية. تصريحات ترامب تكشف أن نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن لم يعد بالهيمنة السابقة، وأن إسرائيل قد تربح المعارك العسكرية لكنها تخسر "الحرب الدعائية" عالمياً، وهو ما سيترك أثره في المستقبل على محاولاتها تثبيت مشروعها الاستعماري.
  • النظام الدولي: هذه الخطة قد تفتح الباب أمام صراعات قانونية في الأمم المتحدة والمحاكم الدولية بشأن التهجير القسري وانتهاك حق تقرير المصير. كما ستمنح القوى المناوئة للولايات المتحدة (كروسيا والصين) فرصة لتقديم نفسها كمدافعة عن العدالة الدولية في مواجهة "الاستعمار الجديد".

الخاتمة

إن استعراض الخلفيات التاريخية، وملامح الخطة الترامبية، والأطراف الفاعلة فيها، والتداعيات المتوقعة، ثم المقارنة مع تجارب العراق وأفغانستان وليبيا، يكشف بوضوح أن ما يجري اليوم ليس مجرد نقاش حول "اليوم التالي" في غزة، بل هو مشروع استعماري متكامل يستهدف إعادة صياغة القضية الفلسطينية من جذورها.

والخطة الأمريكية – الإسرائيلية تتجاوز أي أفق سياسي لحل الدولتين أو حتى التسويات الجزئية السابقة. فهي لا تعترف بحق الفلسطينيين في السيادة أو تقرير المصير، بل تختزل القضية في ملف اقتصادي – إنساني، متمثلة في مشاريع استثمارية مقابل التنازل عن الأرض، وحوافز مالية مقابل مغادرة السكان أو حصرهم في مناطق مغلقة. هذا النهج يعيد إنتاج ما سماه نتنياهو في التسعينيات بـ"السلام الاقتصادي"، لكنه هذه المرة في صورة أكثر قسوة ووضوحاً، حيث يتم الجمع بين التهجير والإعمار كوجهين لعملة واحدة.

كما أن التهجير "الطوعي" الذي تطرحه الخطة ليس سوى صيغة حديثة للتطهير العرقي. بدلاً من الطرد المباشر كما جرى في النكبة عام 1948، يُستخدم اليوم خطاب "الفرصة الاقتصادية" و"الحياة الأفضل في الخارج". هذا الأسلوب أكثر خطورة لأنه يُلبس الجريمة ثوب الإنسانية، ويحاول إقناع العالم بأن الفلسطينيين يختارون المغادرة بإرادتهم. وفي جوهره، هو إعادة إنتاج لمقولة استعمارية قديمة ترى في السكان الأصليين "عائقاً" أمام التنمية، فيجب إزاحتهم.

كذلك وضع الخطة غزة تحت وصاية أمريكية مباشرة مع ضمان السيطرة الأمنية الإسرائيلية، يعني عملياً تجريد الفلسطينيين من أي سيادة. هذا يعكس تحول الولايات المتحدة من راعٍ للسلام – ولو شكلياً – إلى قوة استعمارية تدير الأرض والسكان مباشرة، بينما تتحول إسرائيل إلى المستفيد الأكبر، فهي تتخلص من عبء غزة، وتواصل ضم الضفة الغربية، وتقدم نفسها كدولة طبيعية في الإقليم.

كما الخطة تهدد الأمن القومي لدول الجوار، سيما مصر والأردن. فتهجير الفلسطينيين يعني إعادة فتح ملف التوطين، وهو خط أحمر تاريخي في السياسات العربية. كما أن تحويل غزة إلى فضاء استثماري أمريكي – إسرائيلي على حدود سيناء يشكل خطراً استراتيجياً على القاهرة. هذا يفسر لماذا لا يمكن لأي نظام عربي أن يتبنى الخطة علناً، رغم أن بعض الأنظمة قد تُساق للمشاركة فيها كواجهة.

رغم أن إسرائيل قد تحقق مكاسب ميدانية في غزة، فإنها تخسر معركة الرأي العام العالمي. تصريح ترامب بأن إسرائيل "فقدت سيطرتها على الكونغرس ولم تعد تكسب الحرب الدعائية" يعكس تراجعاً حقيقياً في صورتها الدولية. فجرائم الحرب والإبادة الموثقة جعلت من الصعب على حتى أقرب حلفائها تبرير أفعالها. هذا يعني أن أي خطة أمريكية – إسرائيلية ستواجه أزمة شرعية دولية، حتى لو مُررت في الواقع، لأن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال منذ عقود، ولأن مشروع التهجير ليس جديداً بل هو استكمال للنكبة والنكسة والاستيطان. ما يعني أن الخطة الأمريكية الحالية ليست بداية جديدة، بل تتويج لمسار طويل من محاولات تصفية القضية الفلسطينية.

تم نسخ الرابط