هواجس الاقليم: إلى أي مدى يشكل برنامج الصواريخ الإيرانية خطراً حقيقياً ممتداً؟

الدراسة متاحة باللغة الانجليزية - من هنا
المستخلص
يعد البرنامج الصاروخي الإيراني أحد أبرز مرتكزات القوة والردع في الاستراتيجية الإيرانية، حيث يجمع بين أبعاد دفاعية لتعويض محدودية القدرات الجوية وأبعاد هجومية تهدف إلى تعزيز النفوذ الاقليمي وإعادة صياغة التوازنات في الشرق الأوسط. حيث أن الصواريخ الإيرانية لم تعد مجرد أداة ردع بل أصبحت وسيلة لتثبيت حضور إيران عبر ساحات الصراع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. كما أبرزت أن المخاوف الإسرائيلية والخليجية والدولية من هذا البرنامج ترتبط بتهديده المباشر للأمن القومي ولأمن الممرات الحيوية للطاقة. ورغم محاولات احتواءه بالعقوبات أو الدفاعات الصاروخية، تبقى هذه الجهود محدودة الفعالية، ما يفتح المجال لسيناريوهات متباينة: إما التوصل إلى تفاهمات تقلص من وتيرة التصعيد، أو انزلاق المنطقة إلى سباق تسلح متسارع، أو نشوء معادلات ردع أكثر تعقيداً ستشكل مستقبل الأمن الاقليمي.
مقدمة
يعتبر البرنامج الصاروخي الإيراني أحد أكثر الملفات إثارة للجدل في المشهدين الاقليمي والدولي، إذ يمثل أداةً استراتيجية مزدوجة الاستخدام بالنسبة لطهران؛ فمن جهة يستخدم كوسيلة ردع عسكري في ظل إدراك إيران لفجوة التفوق التقليدي بينها وبين القوى الكبرى، ومن جهة أخرى يشكل ورقة ضغط سياسية في مفاوضاتها مع الغرب وفي إعادة صياغة التوازنات الاقليمية. وقد اكتسب هذا الملف أهمية مضاعفة منذ إعلان إيران توسيع نطاق تجاربها وتطويرها لأنظمة صاروخية متقدمة متوسطة وبعيدة المدى، قادرة على الوصول إلى عمق إسرائيل وأجزاء من أوروبا الشرقية، فضلًا عن امتلاك قدرات متزايدة على حمل رؤوس تقليدية وربما نووية مستقبلًا.
تتجسد خطورة هذا الملف بشكل أكبر في ضوء المستجدات الاقليمية الأخيرة، حيث شهد الاقليم تصاعداً في توظيف الصواريخ كأداة ضمن حروب الوكالة، سواء عبر الحوثيين الذين أطلقوا صواريخ بالستية استهدفت إسرائيل في أغسطس 2025، أو عبر "حزب الله" الذي واصل استخدام الصواريخ الدقيقة في اشتباكاته مع الجيش الإسرائيلي على الحدود اللبنانية. هذه الوقائع تعزز القناعة بأن البرنامج الصاروخي الإيراني لم يعد حكراً على المؤسسة العسكرية الإيرانية، بل أصبح بنية موزعة عابرة للحدود، تغذيها إيران بالتكنولوجيا والخبرات ضمن استراتيجية "تصدير الردع".
وعلى المستوى الدولي، جاءت تصريحات كايا كالاس، الممثلة العليا للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، لتؤشر إلى انتقال النقاش من دائرة العقوبات الاقتصادية التقليدية إلى تفعيل آلية "السناب باك" لإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، ليس فقط على خلفية الملف النووي، وإنما بشكل واضح نتيجة "التهديد المتنامي للبرنامج الصاروخي". هذه النقلة النوعية في الخطاب الأوروبي تعكس تزايد الاعتراف بأن الخطر الصاروخي الإيراني لا يقتصر على التوازنات الشرق أوسطية، بل يتعداها إلى الأمن الأوروبي ذاته، خاصة في ظل حرب أوكرانيا وما كشفت عنه من تعاون عسكري بين موسكو وطهران في مجال المسيرات والصواريخ. في هذا السياق، يصبح النقاش حول "مدى" الخطر الصاروخي الإيراني نقاشاً مركباً يتجاوز اعتبارات التقنية العسكرية البحتة، ليمتد إلى أبعاد جيوسياسية وأمنية واستراتيجية.
أولاً- المحددات الاستراتيجية للبرنامج الصاروخي الإيراني
إن تقييم المخاطر الممتدة لبرنامج الصواريخ الإيراني لا يكتمل دون الوقوف على المحددات الاستراتيجية التي شكلت منطلقاته، إذ لم يكن هذا البرنامج مجرد أداة عسكرية تقليدية، بل ركيزة في بناء عقيدة أمن قومي تتشابك مع طبيعة النظام السياسي الإيراني، وإدراكاته للتهديدات الخارجية، وسعيه إلى فرض معادلات ردع موازية أمام التفوق العسكري الغربي والإسرائيلي. هذه المحددات تتوزع بين أبعاد أمنية، وسياسية، واقتصادية، وأيديولوجية، ما يجعل من البرنامج خيارًا وجوديًا بالنسبة لطهران أكثر من كونه مجرد خيار تقني أو تسليحي.
هواجس الأمن القومي وتاريخ الحروب
تستند إيران في تبريرها الداخلي والخارجي للتمسك بالبرنامج الصاروخي إلى ذاكرة الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، حين تعرضت مدنها الكبرى، وفي مقدمتها طهران وأصفهان، لقصف صاروخي مكثف من جانب العراق بدعم غربي. هذا الحدث ترك جرحًا استراتيجياً في العقل الأمني الإيراني، عزز القناعة بأن امتلاك منظومة صاروخية متطورة هو خط الدفاع الأول وربما الوحيد أمام التهديدات الخارجية، سيما في ظل غياب تفوق جوي إيراني مماثل لإسرائيل أو دول الخليج المتحالفة مع الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، ينظر القادة الإيرانيون للصواريخ باعتبارها “جيشًا شعبيًا صامتًا” قادرًا على الردع السريع دون الحاجة إلى تدخل تقليدي واسع.
تعويض اختلال موازين القوى الاقليمية
تعاني إيران من فجوة كبيرة في القدرات الجوية مقارنةً بالقوة الجوية الإسرائيلية أو منظومات الدفاع الجوي الخليجية الحديثة المدعومة أمريكيًا. لذلك، تسعى طهران عبر برنامجها الصاروخي إلى خلق توازن ردع غير متماثل، بحيث يكون الصاروخ أداة لإعادة تشكيل حسابات الخصوم عبر تكبيدهم كلفة عالية لأي عمل عسكري. ويظهر ذلك بوضوح في التصعيد الأخير باليمن ولبنان، حيث أثبتت تجربة إطلاق الحوثيين لصواريخ بعيدة المدى تجاه إسرائيل في أغسطس 2025، وما سبقها من استخدام صواريخ دقيقة في حرب غزة 2021 و2023، أن إيران لا تراهن على التفوق الكمي فحسب، بل على الوصول إلى خاصرة أمنية حساسة لدى خصومها.
البعد الأيديولوجي والشرعية الثورية
يرتبط البرنامج الصاروخي في الداخل الإيراني بمفهوم "الاستقلال والسيادة"، وهو أحد ركائز شرعية النظام منذ 1979. فالخطاب الرسمي يربط امتلاك القدرة الصاروخية بمقاومة "الهيمنة الغربية" وحماية الأمة الإسلامية، وهو خطاب يلقى رواجًا لدى الحرس الثوري والتيارات المحافظة. ومن ثم، فإن أي تراجع عن تطوير البرنامج ينظر إليه داخليًا على أنه تنازل يمس جوهر الثورة ويهدد تماسك جبهة النظام. بل إن تصريحات كبار قادة الحرس الثوري في صيف 2025 أكدت أن البرنامج الصاروخي خط أحمر لا يمكن التفاوض بشأنه، حتى في ظل الضغوط الأوروبية لإعادة تفعيل "آلية السناب باك" ضد طهران.
توظيف البرنامج كأداة نفوذ اقليمي
لا يمكن فصل البرنامج الصاروخي عن إستراتيجية إيران التوسعية في محيطها، إذ أصبح توريد وتطوير الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة حاضراً في دعم حلفائها بالمنطقة، سواء في لبنان (حزب الله) أو اليمن (أنصار الله الحوثيون) أو العراق وسوريا. هذا التوظيف يعكس رؤية إيرانية للصواريخ ليس فقط كوسيلة ردع وطنية، بل كذراع جيوسياسية ممتدة تتيح لطهران نقل خطوط المواجهة إلى خارج حدودها. ومؤخرًا، أعادت عملية إطلاق الحوثيين لصاروخ متوسط المدى باتجاه إسرائيل في أغسطس 2025 الجدل داخل الأوساط الأوروبية حول خطورة البرنامج، لاسيما بعد أن أثبتت قدرته على تجاوز الدفاعات الجوية متعددة الطبقات التي يعتمدها الجيش الإسرائيلي.
العقوبات والاقتصاد المقاوم
رغم العقوبات الغربية المشددة، استطاعت إيران تحويل تطوير الصواريخ إلى مشروع "اكتفاء ذاتي"، يعكس استراتيجية "الاقتصاد المقاوم" التي دعا إليها المرشد الأعلى. فبدلاً من أن تؤدي الضغوط الاقتصادية إلى تفكيك هذا القطاع، عززت من دوافع إيران للاعتماد على الصناعات العسكرية المحلية. بل إن نجاح طهران في اختبار صواريخ جديدة مثل "خرمشهر-4" (2023) و"فتاح-2" فرط الصوتي (2024) يعكس تحديها المباشر لسياسات الاحتواء الغربية. ومن هنا، يكتسب البرنامج بعدًا رمزيًا يوحي للجمهور الداخلي بأن إيران قادرة على تحقيق إنجازات رغم الحصار.
السياق الدولي وتبدل الحسابات الأمريكية والأوروبية
تفاقم الجدل الأوروبي مؤخرًا بعد تصريحات كايا كالاس، الممثلة العليا للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، في أغسطس 2025، حول إعادة تفعيل "آلية السناب باك" استنادًا إلى انتهاكات إيران المستمرة، ليس فقط في الملف النووي، بل تحديدًا في ملف الصواريخ الباليستية. هذا الموقف يعكس قناعة متزايدة في الغرب بأن الصواريخ الإيرانية لم تعد مجرد تهديد اقليمي محصور، بل خطر ممتد يطال أمن المتوسط وأوروبا عبر حلفاء طهران أو عبر تطوير صواريخ فرط صوتية قد تصل إلى مدى يتجاوز 2000 كلم.
ثانياً- توظيفات البرنامج الصاروخي في التوازنات الاقليمية
لا يمكن فهم البرنامج الصاروخي الإيراني في عزلة عن محيطه الاقليمي، إذ يتجاوز كونه مجرد أداة ردع عسكرية إلى كونه ورقة استراتيجية متعددة الاستخدامات في صوغ موازين القوى داخل الشرق الأوسط. فإيران تدرك أن ميزان القوى التقليدي -فيما يتعلق بسلاح الجو، والدفاعات المتقدمة، والقدرات التكنولوجية– يميل لصالح خصومها، خاصةً إسرائيل وبعض دول الخليج المدعومة أمريكياً. ومن ثم، تمثل الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة (الدرونز) وسيلة لتعويض هذا الاختلال وتثبيت حضورها الاقليمي.
الصواريخ كأداة ردع ممتدة
يمكن النظر إلى البرنامج الصاروخي باعتباره "أداة ردع ممتدة"، فهو لا يقتصر على ردع تهديدات عسكرية مباشرة ضد الداخل الإيراني، بل يتجاوز إلى ردع الضغوط السياسية والاقتصادية عبر إظهار استعداد إيران لتهديد المصالح الاستراتيجية لخصومها في حال تصاعدت المواجهة. فمثلًا، خلال جولات التصعيد في الخليج العربي (2019–2022)، استخدمت طهران وحلفاؤها الصواريخ والطائرات المسيرة لإرسال إشارات مباشرة إلى واشنطن والرياض وأبوظبي حول هشاشة الأمن الطاقوي الاقليمي. وشكلت الهجمات على منشآت "أرامكو" في بقيق وخريص نموذجًا عمليًا لكيفية توظيف هذه القدرات في زعزعة استقرار سوق الطاقة العالمي وإبراز حدود الردع التقليدي.
خلق توازن رعب مع إسرائيل
وظفت إيران برنامجها الصاروخي كأداة لخلق نوع من "توازن الرعب" مع إسرائيل، خاصة في ظل انتقال الصراع من مسرح العمليات التقليدية إلى صراع "الحرب الرمادية" الممتدة عبر وكلاء اقليميين. فإمداد حزب الله في لبنان والجماعات المسلحة في غزة بصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى يمنح طهران قدرة على ممارسة ضغط غير مباشر على إسرائيل دون الدخول في مواجهة مفتوحة. وقد ظهر هذا الاستخدام بوضوح خلال جولات التصعيد في غزة 2023–2025، حيث مثل الدعم الإيراني جزءًا من منظومة الضغط الاستراتيجي على تل أبيب. ومع اتساع نطاق الاشتباكات بعد يونيو 2025، سعت إيران إلى تعزيز معادلة "الجبهات المتعددة"، بما يجعل إسرائيل محاصرة بتهديدات صاروخية من الشمال والجنوب على السواء.
إعادة صياغة التوازنات مع الخليج
ساهم البرنامج الصاروخي في إعادة صياغة التوازنات مع السعودية والإمارات على نحو غير مباشر، فالهواجس الخليجية من التهديد الصاروخي دفعتها إلى زيادة الإنفاق العسكري، وإلى توسيع نطاق التعاون الأمني مع الولايات المتحدة، بل والانفتاح على إسرائيل في مجال الدفاع الجوي. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو انتكاسة لإيران، فإنه من زاوية أخرى يحقق لها هدفًا استراتيجيًا غير مباشر: إذ يكرس صورة طهران باعتبارها التهديد المركزي، ما يمنحها ورقة مساومة دائمة على طاولة المفاوضات مع القوى الكبرى.
الصواريخ كورقة ضغط في مواجهة الغرب
من زاوية أوسع، سمحت الصواريخ الإيرانية لطهران بفرض معادلة "القدرة على تعطيل المصالح الدولية" في حال جرى تجاوز خطوطها الحمراء. فإيران وظفت هذا الملف في سياق التوتر مع الولايات المتحدة وأوروبا حول الملف النووي والعقوبات الاقتصادية، حيث لوحت أكثر من مرة بأن أي محاولة لخنقها اقتصاديًا أو استهدافها عسكريًا لن تمر دون تهديد مباشر للممرات الملاحية الحيوية في الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر. وقد ازدادت هذه المخاوف حدة بعد تصاعد التوترات في البحر الأحمر عام 2024–2025، إذ ترددت تقارير غربية حول احتمال قيام إيران بتسليح الحوثيين في اليمن بمنظومات صاروخية متطورة قادرة على استهداف الممرات الدولية.
استراتيجية "عدم الحسم"
يكتسب البرنامج الصاروخي الإيراني أهميته في كونه ليس مجرد مخزون عسكري بل شبكة متعددة الوظائف: أداة ردع، ووسيلة ضغط، ومصدر تهديد غير مباشر، وآلية مساومة في المفاوضات مع القوى الكبرى. ومن ثم، يمكن القول إن التوظيف الأبرز للصواريخ الإيرانية هو الحفاظ على "حالة عدم الحسم" في التوازنات الاقليمية: فهي تمنع خصوم طهران من المبادرة بحرب شاملة، لكنها في الوقت نفسه لا تتيح لطهران فرض سيطرة مطلقة، بل تبقي الاقليم في حالة توتر مستمر تتيح لها استثمار الفوضى وإعادة تشكيل التوازنات بما يخدم استراتيجيتها طويلة المدى.
ثالثاً- تطبيقات لتوظيف البرنامج الصاروخي الإيراني
يظهر البرنامج الصاروخي الإيراني أبعاده العملية بوضوح أكبر عند تتبع مساراته في الساحات الاقليمية التي تشكل مختبرًا ميدانيًا لاختبار قدراته وتكريس نفوذه. وقد شكلت اليمن وسوريا والعراق ولبنان ساحات محورية لهذا التوظيف، حيث سمحت طبيعة الصراعات والهشاشة الأمنية للدول المركزية بفتح المجال أمام إيران لتوسيع دائرة التأثير عبر وكلائها المحليين.
الحالة اليمنية: الحوثيون كساحة اختبار
يمثل اليمن أبرز ساحة لتجريب وتوظيف الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة الإيرانية. فمنذ عام 2015، برزت جماعة الحوثي كذراع عسكري إيراني قادر على تهديد العمق السعودي والإماراتي عبر هجمات صاروخية متكررة. هذه الصواريخ، التي تعود جذورها إلى منظومات إيرانية مثل "قيام" و"شهاب"، جرى تطوير نسخ معدلة منها محليًا مثل "بركان" و"بدر"، وهو ما وفر للحوثيين القدرة على استهداف مواقع استراتيجية مثل مطارات الرياض وأرامكو في بقيق (2019).
وتدل هذه الحالة على أن البرنامج الصاروخي لا يشكل فقط أداة ردع دفاعي لإيران، بل أداة هجوم غير مباشر تسمح لطهران بفرض معادلة "التهديد البعيد عبر الوكلاء"، وهو ما يعزز من موقعها التفاوضي اقليميًا ويصعب من مهمة خصومها في احتوائها. كما أن التوظيف في اليمن كشف عن قدرة إيران على تجاوز العقوبات الدولية عبر نقل التكنولوجيا العسكرية في صورة أجزاء أو عبر خبراء تقنيين، ما يجعل الخطورة مضاعفة.
الحالة السورية: التمركز الاستراتيجي وإعادة التوازن
منذ اندلاع الحرب السورية، استغلت إيران الفراغ الأمني والسياسي لترسيخ قواعد صاروخية ومخازن تسليح داخل الأراضي السورية، وخاصة في محيط دمشق ومناطق الجنوب القريب من الحدود مع إسرائيل. ورغم الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة ضد تلك المنشآت، فإن استمرار شحنات الصواريخ الإيرانية لحزب الله عبر الأراضي السورية يعكس إصرار طهران على استخدام سوريا كحلقة وصل استراتيجية في محور "طهران-بغداد-دمشق-بيروت".
وبينما تحاول إسرائيل الحد من هذا التموضع، فإن الواقع يشير إلى نجاح إيران في إبقاء سوريا منصة إسناد استراتيجية، وخلق معادلة استنزاف مزدوجة لإسرائيل: ضربات جوية مستمرة لكنها غير قادرة على إلغاء البنية التحتية الصاروخية بالكامل. وبالتالي تشكل سوريا نموذجًا لإصرار إيران على التمركز بعيد المدى وتحويل أراضٍ متصدعة سياسيًا إلى ساحات احتكاك دائمة.
الحالة العراقية: دمج الميليشيات في منظومة الردع
يعد العراق نموذجًا معقدًا لتوظيف إيران للصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى من خلال الفصائل الشيعية المسلحة مثل "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق". هذه الفصائل، المرتبطة بالحرس الثوري، طورت ترسانة صاروخية قادرة على استهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وهو ما ظهر جليًا بعد اغتيال قاسم سليماني (2020) عبر قصف قاعدة عين الأسد.
التجربة العراقية تكشف بعدًا إضافيًا للبرنامج الصاروخي الإيراني يتمثل في دمج الميليشيات داخل الدولة، وتحويل قدراتها إلى جزء من "الردع الاقليمي المركب". فالعراق أصبح ساحة مزدوجة: مركز عبور للصواريخ الإيرانية باتجاه سوريا ولبنان، ومنصة هجوم بالوكالة ضد الوجود الأمريكي، ما يجعل البرنامج الصاروخي أداة نفوذ سياسي بقدر ما هو عسكري.
الحالة اللبنانية: حزب الله وتوازن الردع مع إسرائيل
يشكل لبنان النموذج الأوضح والأكثر تطورًا لاستخدام إيران لقدراتها الصاروخية عبر حليفها الاستراتيجي حزب الله. فمنذ حرب 2006، ضاعف الحزب ترسانته الصاروخية لتتجاوز بحسب التقديرات الإسرائيلية 150 ألف صاروخ، تتنوع بين قصيرة ومتوسطة المدى، إضافة إلى محاولات تطوير دقة الإصابة عبر "مشروع الصواريخ الدقيقة".
يترجم هذا الوضع في معادلة "الردع المتبادل" بين حزب الله وإسرائيل، حيث يدرك الطرفان أن أي مواجهة شاملة ستؤدي إلى تدمير واسع النطاق، وهو ما يمنح إيران ورقة استراتيجية بالغة الأهمية: تهديد مباشر للعمق الإسرائيلي من خارج أراضيها، وبالتالي تحويل لبنان إلى جبهة متقدمة في معركة النفوذ الاقليمي.
إجمالاً، هذه الحالات الأربع تظهر أن البرنامج الصاروخي الإيراني لا يقتصر على الردع الدفاعي، بل يتجاوزه إلى استراتيجية هجومية متكاملة، تتضمن نقل التكنولوجيا، بناء شبكات لوجستية، وتوظيف وكلاء محليين لإدامة الصراع. الأهم أن هذه الساحات تتيح لإيران التفاوض من موقع قوة، عبر التهديد الدائم بفتح جبهات متعددة في وقت واحد، وهو ما يضاعف قلق القوى الاقليمية والدولية من "انتشار الخطر" بدلًا من حصره داخل حدود إيران.
رابعاً- حرب الـ 12 يوم كدلالة استراتيجية على التهديد الصاروخي الإيراني
اندلاع المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل في يونيو 2025، والتي عرفت إعلامياً بـ"حرب الـ12 يوم"، جاء في سياق اقليمي ودولي بالغ التعقيد. فقد سبقت الحرب سلسلة من الاستهدافات المتبادلة في كل من سوريا والعراق، حيث كثفت إسرائيل ضرباتها لمواقع يشتبه بأنها تابعة لفيلق القدس والحرس الثوري، في محاولة للحد من تدفق الأسلحة والصواريخ الدقيقة إلى حزب الله في لبنان. في المقابل، عمدت إيران إلى الرد عبر أذرعها الاقليمية، سيما في العراق واليمن، مما خلق حالة تراكمية من التوتر. الشرارة المباشرة للحرب ارتبطت بتبادل قصف صاروخي واسع النطاق استهدف العمق الإسرائيلي، ورد تل أبيب عبر ضربات جوية وصاروخية مركزة ضد البنية التحتية العسكرية الإيرانية. هذا التفاعل المتصاعد جسّد انتقال الصراع من "حروب الظل" والاستنزاف غير المباشر إلى مواجهة علنية، ولو محدودة زمنياً.
البعد الصاروخي ودلالاته الاستراتيجية
اللافت في هذه الحرب هو الدور المحوري الذي لعبه البرنامج الصاروخي الإيراني، إذ شكل السلاح الرئيسي في المواجهة. فقد أطلقت إيران، خلال 12 يوماً، مئات الصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيرة الهجومية نحو إسرائيل، بعضها من أراضيها مباشرة والبعض الآخر عبر منصات في العراق واليمن ولبنان. ورغم نجاح منظومات الدفاع الإسرائيلية -خاصة "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود" و"حيتس-3"- في اعتراض نسبة عالية منها، إلا أن بعض الصواريخ نجح في اختراق الدفاعات وضرب أهداف استراتيجية، ما مثل رسالة واضحة من طهران حول قدرتها على فرض "معادلة ردع صاروخية". الدلالة الأبرز هنا أن البرنامج الصاروخي لم يعد أداة تقليدية للمناورة الاقليمية فحسب، بل أصبح ركيزة مباشرة في معادلة الحرب مع إسرائيل، ووسيلة لإيصال رسائل سياسية إلى الولايات المتحدة والغرب.
انعكاسات الحرب على البيئة الاقليمية
أدت حرب الـ12 يوم إلى إعادة خلط الأوراق في الشرق الأوسط، خاصةً أنها برزت كأول مواجهة مباشرة بهذا الحجم بين إيران وإسرائيل، بعيداً عن ساحات الوكلاء التقليدية. من جهة، عززت الحرب المخاوف الخليجية من تنامي النفوذ العسكري الإيراني وقدرته على توظيف الصواريخ في تهديد أمن الخليج وممرات الطاقة. ومن جهة أخرى، كشفت هشاشة التوازنات في لبنان وسوريا والعراق، حيث بدت تلك الدول كساحات مفتوحة للاشتباك بين الطرفين. كما انعكست الحرب على الأمن البحري في البحر الأحمر والخليج العربي، مع تعرّض ناقلات وسفن حربية لهجمات مسيرة، ما رسخ قناعة لدى القوى الدولية بأن أي تصعيد إيراني–إسرائيلي ستكون له أبعاد عابرة للحدود.
الأبعاد الدولية وردود الفعل
اتخذ الصراع منعطفًا دوليًا بارزًا عندما امتدت المواجهات العسكرية بين إيران وإسرائيل إلى تدخل مباشر من الولايات المتحدة، التي شنت ضربات جوية عميقة على مواقع نووية حساسة في إيران باستخدام قنابل دقيقة التوجيه وقاذفات استراتيجية، ما شكل سابقة في العلاقة بين واشنطن وطهران. في حين أثرت الضربات، فعليًا، على الجدول الزمني النووي الإيراني، فإن التقارير الاستخباراتية أوضحت أنها لم تُدمر القدرة بالكامل.
الاتحاد الأوروبي، في سياق الرد، وجد نفسه أمام معضلة استراتيجية جديدة، إذ ظل يدعو لحوار مع إيران لكنه في الوقت ذاته يعي أن الأيام الزمنية لقدرة البرنامج النووي ليست بالهينة، وعليه مراجعة أدواته الدبلوماسية. من جانبهما، روسيا والصين انتقدت الهجوم الأمريكي بشدة، معتبرتين إياه انتهاكًا للقانون الدولي، ومسارعة لاستغلاله في تعزيز موقفهما على الساحة العالمية. أما الأمم المتحدة، فقد نبهت إلى احتمالية تحول التوتر إلى أزمة مفتوحة تمتد لمناطق مجاورة، فيما شددت القوى الاقتصادية الكبرى على ضرورة تفادي تأثيرات إضافية على إمدادات الطاقة والأسواق العالمية.
خامساً- انعكاسات البرنامج الصاروخي الإيراني على الأمن الاقليمي والدولي
إن انعكاسات البرنامج الصاروخي الإيراني تتجاوز كونه قضية تسلح تقليدي إلى كونه محددًا أساسيًا لإعادة تشكيل البيئة الأمنية في الشرق الأوسط، بل ويمتد أثره إلى التوازنات الدولية. فالقضية لا تنحصر في قدرة إيران على امتلاك ترسانة صاروخية بعيدة المدى ومتنوعة القدرات، بل تكمن في ما تتيحه هذه الترسانة من أدوات ضغط جيوسياسي، وأوراق تفاوض استراتيجية، وأنماط ردع غير متكافئة تعيد صياغة حسابات الفاعلين الاقليميين والدوليين على حد سواء.
سباق تسلح خليجي متصاعد
على المستوى الاقليمي، أدى البرنامج الصاروخي الإيراني إلى تعميق سباق التسلح القائم بالفعل، حيث دفعت هواجس التهديد الصاروخي الإيراني دول مجلس التعاون الخليجي إلى التوسع في منظومات الدفاع الجوي متعددة الطبقات، مثل "ثاد" (THAAD) و"باتريوت باك–3"، بالتوازي مع تعزيز التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. هذه التطورات تعكس إدراكًا خليجيًا بأن الردع التقليدي لم يعد كافيًا أمام التطوير النوعي للصواريخ الإيرانية، لاسيما بعد الهجمات على منشآت "أرامكو" عام 2019، والتي أبرزت فاعلية قدرات الضربات الإيرانية المباشرة أو عبر الوكلاء. كما ساهمت هذه الهواجس في دفع بعض دول الخليج نحو مسار التطبيع الأمني مع إسرائيل، خاصةً في مجال التعاون الدفاعي وأنظمة الإنذار المبكر.
تكريس النفوذ الإيراني عبر ساحات الوكلاء
في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تحول البرنامج الصاروخي الإيراني إلى أداة لتكريس نفوذ طهران غير المباشر، ما جعل هذه الدول ساحات اختبار للصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى. هذا التوظيف لم يقتصر على إحداث توازن ردعي مع الخصوم المحليين أو الاقليميين، بل ساهم في إعادة تشكيل معادلات الردع في المنطقة ككل. ففي لبنان على سبيل المثال، امتلاك "حزب الله" ترسانة صاروخية ضخمة (يتجاوز تقديرها 150 ألف صاروخ متنوع) يضع إسرائيل أمام معضلة استراتيجية تتعلق بالجدوى الفعلية من أي عملية عسكرية واسعة النطاق في الجنوب اللبناني. وفي اليمن، أظهر الحوثيون أن الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية قادرة على شل منشآت الطاقة الحيوية في السعودية والإمارات، وهو ما يرفع تكلفة أي مواجهة مباشرة مع إيران ووكلائها.
تهديدات مستمرة لمعادلات الردع الاقليمية
يشكل البرنامج الصاروخي الإيراني تهديدًا متناميًا لمعادلة الردع التركية والإسرائيلية. فأنقرة وتل أبيب باتتا مضطرتين لمواءمة استراتيجياتهما الدفاعية مع حقيقة أن أي مواجهة مباشرة مع طهران أو وكلائها قد تعرض عمقهما الاستراتيجي لضربات دقيقة أو مكثفة. وهو ما يفسر التوازن الضمني في سياسات البلدين، الذي يقوم على الجمع بين الانخراط في مواجهات محدودة في سوريا أو العراق، وبين تجنب التصعيد الشامل الذي قد يطلق العنان لقدرات إيران الصاروخية.
القلق الدولي: بين واشنطن وأوروبا
على المستوى الدولي، أصبح البرنامج الصاروخي الإيراني مصدر قلق متزايد للقوى الكبرى، سيما الولايات المتحدة وأوروبا. فبالنسبة لواشنطن، يمثل البرنامج تحديًا مزدوجًا؛ فهو يعرقل فرص العودة إلى صيغة اتفاق نووي شامل، كما يفرض إعادة توزيع المنظومات العسكرية الأمريكية في الخليج لحماية الحلفاء. أما الاتحاد الأوروبي والترويكا الأوروبية، فقد عبروا عن هواجسهم عبر عقوبات متكررة على شركات ومؤسسات مرتبطة ببرنامج الصواريخ والطائرات المسيرة، خاصة بعدما وصلت هذه القدرات إلى أوكرانيا عبر روسيا، ما نقل التهديد من الشرق الأوسط إلى الأمن الأوروبي المباشر.
البعد الروسي–الإيراني في الصواريخ والمسيرات
التداخل بين البرنامج الصاروخي الإيراني والعلاقات الروسية–الإيرانية أضاف بعدًا دوليًا حساسًا. فقد لعبت المسيرات الإيرانية دورًا محوريًا في الحرب الروسية–الأوكرانية، فيما تزايدت التكهنات بشأن تزويد موسكو لطهران بتكنولوجيا صاروخية متقدمة مقابل استمرار الدعم العسكري. هذا التداخل يعكس كيف أصبح البرنامج الصاروخي الإيراني جزءًا من لعبة التوازنات الكبرى بين الغرب وروسيا والصين، متجاوزًا الطابع الاقليمي ليؤثر في معادلات الأمن العالمي.
مجمل القول، إن انعكاسات البرنامج الصاروخي الإيراني على الأمن الاقليمي والدولي تتجلى في ثلاث مستويات مترابطة: أولًا، في دفع دول المنطقة نحو سباق تسلح دفاعي وهجومي أكثر حدة؛ ثانيًا، في تكريس حضور إيران كفاعل اقليمي مؤثر عبر وكلائها وقدراتها غير المتكافئة؛ وثالثًا، في إدخال البرنامج كعنصر مؤثر في معادلة الأمن الدولي، سواء عبر ارتباطه بأمن الطاقة العالمي أو عبر تحالفاته مع قوى كبرى مثل روسيا. هذه المستويات تجعل من الصعب على أي مقاربة سياسية أو دبلوماسية أن تعالج البرنامج في معزل عن أبعاده الاقليمية والدولية المتشابكة.
سادساً- المقاربات الدولية والاقليمية لاحتواء البرنامج الصاروخي الإيراني
إن البرنامج الصاروخي الإيراني لم يكن محل خلاف داخلي أو اقليمي فحسب، بل تحول إلى نقطة ارتكاز في التفاعلات بين إيران والمجتمع الدولي، باعتباره إحدى الأدوات الأكثر حساسية في موازين القوى الشرق أوسطية. وقد انعكس هذا في تعدد المقاربات الدولية والاقليمية لاحتوائه، سواء عبر مسارات دبلوماسية تسعى لإدراجه ضمن الاتفاقات النووية، أو من خلال ضغوط اقتصادية وأمنية، أو حتى عبر سياسات الردع العسكري غير المباشر.
المقاربة الأمريكية والأوروبية
تبنت الولايات المتحدة منذ إدارة ترامب سياسة تقوم على الفصل بين الاتفاق النووي (JCPOA) وبين الملف الصاروخي، إذ اعتبرت واشنطن أن إدماج البرنامج الصاروخي في أي تفاوض نووي هو شرط لازم لاستعادة أي إطار للتفاهم. هذا التوجه استمر مع إدارة بايدن وإن بدرجة أكثر مرونة، حيث حاولت واشنطن إعادة إحياء الاتفاق النووي عبر مفاوضات في فيينا منذ 2021، لكنها اشترطت أن يفتح ملف الصواريخ الباليستية متزامناً مع ملف الطائرات المسيرة الإيرانية التي برز دورها في حرب أوكرانيا منذ فبراير 2022. من جانبها، سارت أوروبا في الاتجاه نفسه ولكن بصيغة أكثر دبلوماسية، إذ ربط الاتحاد الأوروبي استقرار المنطقة بالحد من التمدد الصاروخي الإيراني، ودعا مراراً إلى إدراجه ضمن أطر تفاوضية جديدة، خاصة مع تزايد الضغوط من دول الخليج وإسرائيل.
كما وظفت الولايات المتحدة وأوروبا العقوبات بشكل مكثف، حيث أدرجت مؤسسات تابعة للحرس الثوري الإيراني على لوائح العقوبات، مع استهداف مباشر لشبكات التوريد المرتبطة ببرامج الصواريخ والمسيرات. وقد أخذت هذه العقوبات بعداً متصاعداً عقب تقارير أممية وغربية عن توريد إيران مسيرات هجومية لروسيا استخدمت في الهجمات على البنية التحتية الأوكرانية، ما منح الأزمة أبعاداً عابرة للاقليم.
المقاربة الروسية والصينية
على النقيض من ذلك، تنظر روسيا والصين إلى البرنامج الصاروخي الإيراني باعتباره ورقة توازن مهمة في مواجهة الهيمنة الأمريكية. موسكو استخدمت التعاون العسكري مع طهران كورقة ضغط على الغرب، سواء من خلال صفقات المسيرات الإيرانية أو عبر إشارات ضمنية إلى احتمالية التعاون في تطوير الصواريخ الباليستية. أما بكين، فرغم التزامها الظاهري بمبادئ عدم الانتشار، إلا أنها اعتمدت مقاربة أكثر براغماتية، إذ فضلت استثمار علاقاتها الاقتصادية الضخمة مع إيران (خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي لمدة 25 عاماً في 2021)، مع التغاضي عن جوانب البرنامج الصاروخي طالما لم يؤثر مباشرة على مصالحها التجارية وأمن الطاقة. هذه المقاربة تعكس ما يمكن تسميته بـ"التوازن الحذر": دعم سياسي واقتصادي لإيران من دون انخراط علني في تطوير البرنامج.
المقاربة الإسرائيلية
تعتبر إسرائيل البرنامج الصاروخي الإيراني تهديداً وجودياً، حيث يتجاوز التحدي النووي في بعض الأحيان من حيث الخطورة المباشرة. فمنظومة الصواريخ الإيرانية متصلة مباشرة بشبكة حلفاء طهران في لبنان وغزة وسوريا والعراق واليمن، وهو ما يترجم عملياً إلى إمكانية تهديد إسرائيل بجبهات متعددة في وقت واحد. لذلك ركزت إسرائيل على تعزيز قدراتها الدفاعية (مثل "القبة الحديدية" و"مقلاع داود" و"حيتس-3")، إلى جانب تطوير قدراتها الهجومية على شكل ضربات دقيقة ضد مخازن ومواقع تطوير الصواريخ في سوريا. كما سعت تل أبيب لتدويل الملف، عبر الضغط على واشنطن وأوروبا لاعتبار البرنامج الصاروخي بنداً لا يقل أهمية عن النووي في أي تفاوض مع إيران، فضلاً عن التهديد المستمر بخيار عسكري إذا ما وصل البرنامج إلى مستوى يهدد التوازن الاستراتيجي في المنطقة.
المقاربة الخليجية
دول مجلس التعاون الخليجي كانت الأكثر انكشافاً أمام البرنامج الصاروخي الإيراني، لاسيما بعد استهداف منشآت "أرامكو" في بقيق وخريص عام 2019، الذي شكل تحولاً في إدراك حجم التهديد. من هنا تبنت دول الخليج مسارين متوازيين: الأول دبلوماسي من خلال حث القوى الدولية على إدراج الملف الصاروخي ضمن أي مفاوضات مع إيران، والثاني أمني عبر تعزيز أنظمتها الدفاعية الجوية، سواء من خلال الشراكة مع الولايات المتحدة أو عبر تنويع الشركاء (كما في صفقات التسليح مع فرنسا وكوريا الجنوبية). ورغم التهدئة النسبية بعد اتفاق بكين بين الرياض وطهران في مارس 2023، ظل الملف الصاروخي من الملفات المؤجلة، ما يشير إلى إدراك خليجي بأن التفاهمات السياسية لا تعني تراجع إيران عن تطوير قدراتها الصاروخية.
مقاربة الأمم المتحدة
الأمم المتحدة تعاملت مع البرنامج من زاوية قرارات مجلس الأمن، خصوصاً القرار 2231 (2015) الذي رافق الاتفاق النووي، والذي دعا إيران إلى الامتناع عن تطوير صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية. غير أن الغموض القانوني في النصوص جعل طهران تستغل الثغرات للاستمرار في تطوير برنامجها، فيما اكتفى المجلس بتقارير دورية لا تحمل إلزامية مباشرة. ومع انكشاف أبعاد اقليمية ودولية للبرنامج، خاصة بعد استخدام المسيرات الإيرانية في الحرب الأوكرانية، تجددت النقاشات داخل الأمم المتحدة حول ضرورة صياغة إطار قانوني أكثر صرامة، لكن الانقسام الدولي حال دون تبني قرارات ملزمة جديدة.
يتضح من هذا الجزء أن المقاربات الدولية والاقليمية لاحتواء البرنامج الصاروخي الإيراني متباينة بين الضغط الصارم (أمريكا وأوروبا)، والدعم البراغماتي (روسيا والصين)، والاستنفار الدفاعي (إسرائيل والخليج)، وهو ما يجعل الملف في قلب معادلات التوازن الاقليمي والدولي، ويؤسس لمرحلة مقبلة تتسم بالتعقيد والتداخل بين المسارات الدبلوماسية والأمنية.
سابعاً- السيناريوهات المستقبلية للبرنامج الصاروخي الإيراني
يمثل استشراف مستقبل البرنامج الصاروخي الإيراني مسعى بالغ الأهمية في ضوء تعقد المشهد الاقليمي والدولي، وتداخل الاعتبارات العسكرية والسياسية والدبلوماسية مع محددات الاقتصاد والردع. إن تقييم السيناريوهات المحتملة يتطلب النظر إلى الاتجاهات الراهنة بما في ذلك تصاعد المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية عبر جبهات متعددة، وانخراط الولايات المتحدة وأوروبا في فرض أنماط متجددة من العقوبات، مقابل الدعم الروسي–الصيني غير المباشر لطهران، وهو ما يفتح المجال أمام عدة مسارات رئيسية يمكن أن يسلكها البرنامج الصاروخي في السنوات المقبلة.
السيناريو الأول: الاستمرار في التعزيز الكمي والنوعي
يرجح هذا السيناريو أن تواصل إيران تطوير منظومتها الصاروخية بوتيرة متسارعة، مع التركيز على تحسين الدقة والمدى، وإدماج تقنيات الطائرات المسيرة والقدرات الفرط صوتية. يعكس هذا التوجه تمسك طهران باعتبار الصواريخ أداة ردع بديلة عن القدرات النووية المعلنة، خصوصًا في ظل ضعف إمكانية عقد اتفاق نووي جديد في المدى المنظور. هذا السيناريو تعززه مؤشرات ميدانية، مثل استمرار عمليات اختبار الصواريخ في 2025، وتجارب الطائرات المسيرة بعيدة المدى، إضافة إلى نقل بعض هذه القدرات إلى الحلفاء في لبنان واليمن وسوريا، مما يكرس دور البرنامج كذراع استراتيجية ممتدة خارج الحدود.
السيناريو الثاني: احتواء جزئي عبر التفاهمات الدولية
يطرح هذا المسار إمكانية نجاح ضغوط دبلوماسية غربية – بدعم روسي وصيني نسبي – في فرض صيغة تفاهم محدودة تقيد بعض أوجه تطوير الصواريخ الباليستية الإيرانية، خصوصًا تلك ذات المدى القادر على الوصول إلى أوروبا أو قواعد أمريكية في الخليج. غير أن فرص هذا السيناريو تبقى محدودة بالنظر إلى فقدان الثقة المتراكم منذ انهيار الاتفاق النووي عام 2018، ورفض القيادة الإيرانية ربط برنامجها الصاروخي بأي مفاوضات، مع التأكيد على أنه "خط أحمر سيادي". في حال تحقق، سيكون الاحتواء جزئيًا ومؤقتًا، مع بقاء قدرات إيران الاقليمية قائمة.
السيناريو الثالث: الانفجار العسكري المباشر
في ضوء التصعيد المستمر بين إيران وإسرائيل، واحتمالات توسع جبهات الحرب بالوكالة، يظل احتمال انزلاق الوضع إلى مواجهة صاروخية مباشرة قائمًا. هذا السيناريو يعني أن إسرائيل – بدعم أمريكي – قد تشن هجمات وقائية واسعة على مواقع تطوير وإطلاق الصواريخ الإيرانية، وهو ما سيدفع طهران إلى رد شامل عبر استهداف العمق الإسرائيلي ومنشآت خليجية. انعكاس هذا السيناريو سيكون كارثيًا على أمن الطاقة العالمي، خاصة مع تهديد مضيق هرمز، مما يجعله احتمالًا مطروحًا لكنه محفوف بتكاليف عالية قد تردع الأطراف من الانزلاق إليه إلا في حال استهداف بنية استراتيجية حاسمة داخل إيران.
السيناريو الرابع: إعادة التوازن الاقليمي عبر "الانتشار المرن"
قد تتجه إيران إلى تقليص الحاجة إلى إطلاق صواريخ بعيدة المدى من داخل أراضيها، عبر تعزيز قدرات حلفائها الاقليميين بمنظومات صاروخية ومسيرات متقدمة. هذا المسار يعني نقل مراكز الثقل العسكري من العمق الإيراني إلى محيط إسرائيل والخليج، مما يضاعف تكلفة المواجهة على خصومها، ويحول دون تركيز الضغوط على الداخل الإيراني وحده. ويبدو هذا السيناريو جاريًا بالفعل مع تعزيز ترسانات حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، وهو ما أظهرته المواجهات المتقطعة في البحر الأحمر والخليج خلال عام 2025.
وبالمقارنة، يظهر أن السيناريو الأكثر ترجيحًا على المدى القريب هو الجمع بين السيناريو الأول والرابع: أي استمرار إيران في تطوير قدراتها الصاروخية النوعية، مع توزيع أعباء الردع عبر شبكة الحلفاء الاقليميين. بينما يبقى السيناريو الثالث (المواجهة المباشرة) قائمًا في حال وقوع استفزاز استراتيجي أو خطأ في الحسابات. أما السيناريو الثاني (الاحتواء الدولي) فيبقى رهين تحولات كبرى في الموقف الأمريكي أو الإيراني، وهو أمر غير مرجح في المرحلة الحالية.
الخاتمة:
يمكن القول إن البرنامج الصاروخي الإيراني قد تجاوز حدود كونه مجرد أداة دفاعية مرتبطة بالاعتبارات السيادية الداخلية، ليصبح أحد أهم ركائز النفوذ الاقليمي لإيران وأداة فاعلة في إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط. فمن خلال الجمع بين البعد الردعي تجاه الخصوم التقليديين (إسرائيل، الولايات المتحدة) وبين القدرة على توظيفه ضمن شبكة الوكلاء الاقليميين، استطاعت طهران أن تفرض معادلات جديدة للردع المتبادل، ليس فقط على مستوى الدول، بل أيضًا عبر الفاعلين غير الدوليين الذين يشكلون امتدادًا لسياساتها.
انعكاسات هذا البرنامج على الأمن الاقليمي والدولي تبدو متداخلة ومعقدة؛ فهو من جهة يمثل عامل تهديد مباشر لحلفاء واشنطن في الخليج وإسرائيل، ومن جهة أخرى يوفر لإيران مظلة تتيح لها المناورة الاستراتيجية في مواجهة العقوبات أو الضغوط الغربية. هذا الوضع ساهم في دفع القوى الدولية والاقليمية إلى البحث عن مقاربات متباينة، تراوحت بين سياسة الردع العسكري الصارم، ومحاولات الاحتواء عبر الاتفاقيات الجزئية أو إدماج الملف الصاروخي في تسويات أوسع تشمل النووي والملفات الاقليمية الأخرى.
والمسار المستقبلي يظل مفتوحًا على عدة احتمالات، من التصعيد العسكري غير المباشر عبر وكلاء إيران في الساحات المشتعلة، إلى إمكان الانخراط في تسويات مشروطة تربط تطوير البرنامج بضمانات أمنية واقتصادية لطهران. إلا أن الاتجاه الأكثر ترجيحًا هو بقاء البرنامج كأحد الملفات الشائكة التي يصعب الوصول إلى تسوية شاملة بشأنها في المدى المنظور، نظرًا لأنه يمس جوهر العقيدة الأمنية الإيرانية.
وبناءً على ما سبق، يمكن توصية صانعي القرار الاقليميين والدوليين بضرورة تطوير مقاربة متعددة المستويات، تجمع بين الردع العسكري، والتنسيق الأمني، والانفتاح على قنوات تفاوضية واقعية، بما يوازن بين احتواء التهديدات وتقليل احتمالات الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. فغياب استراتيجية متوازنة من شأنه أن يزيد من هشاشة الاستقرار الاقليمي، ويفتح الباب أمام سباق تسلح صاروخي يضع المنطقة أمام تحديات أمنية غير مسبوقة.
المراجع والمصادر
- Karp, Aaron. "Lessons of Iranian Missile Programs for U.S. Nonproliferation Policy." Nonproliferation Review, May 22, 1998, at:
https://ciaotest.cc.columbia.edu/olj/npr/npr_98kaa01.html. - "Arsenal: Assessing Iran's Ballistic Missile Program." Foundation for Defense of Democracies, February 14, 2023, at:
https://www.fdd.org/analysis/2023/02/15/arsenal-assessing-the-islamic-republic-of-irans-ballistic-missile-program/. - Gopalaswamy, Bharath. "Iran's Missile Program." Cornell University, July 14, 2008, at:
https://www.files.ethz.ch/isn/91553/gtz04.pdf. - "Iran hit five Israeli military bases in 12-day war – The Telegraph." Iran International, July 4, 2025, at:
https://www.iranintl.com/en/202507053142. - Hinz, Fabian. "A Roadmap to Pragmatic Dialogue on the Iranian Missile Program." European Leadership Network, March 2019, at:
https://www.europeanleadershipnetwork.org/wp-content/uploads/2019/03/Fabian-Hinz-ELN-Iran-Missile-Policy-March-2019.pdf. - "How Should Europe Address Iran's Missile Proliferation Activities?" Institut für Internationale Beziehungen Prague, July 19, 2021, at:
https://www.iir.cz/how-should-europe-address-iran-s-missile-proliferation-activities. - Salisbury, Daniel, and David Lowrie. "A Case Study in Iranian Illicit Missile Procurement." Sage Journals, at:
https://journals.sagepub.com/doi/pdf/10.1177/0096340213485948. - "Iran's Missile and Drone Program: Disrupting U.S. Aerial Hegemony." Middle East Institute, August 4, 2024, at:
https://mecouncil.org/publication/irans-missile-and-drone-program-disrupting-u-s-aerial-hegemony/. - "Nuclear Talks and Iran's Missile Program." The Washington Institute, June 2, 2025, at:
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/nuclear-talks-and-irans-missile-program-addressing-overlooked-arsenal. - "The 12-day War against Israel; Iran's Strategic Victory." Tahlilroz, July 25, 2025, at:
https://tahlilroz.com/en/politics/12-day-war/. - "Disarmament, Arms Control, and MENA's Trust Deficit Dilemma: Case Study of Iran's Ballistic Missile Program." Institute of National Affairs, July 26, 2025, at:
https://ine.org.pl/en/disarmament-arms-control-and-menas-trust-deficit-dilemma-case-study-of-irans-ballistic-missile-program/. - "THE IRANIAN NUCLEAR ISSUE AND REGIONAL SECURITY." United Nations Human Rights Office, at:
https://hr.un.org/sites/hr.un.org/files/The%20Iranian%20Nuclear%20Issue%20and%20Regional%20Security.pdf. - Eslami Vieira, Paulo Roberto. "Shi'a Principles and Iran's Strategic Culture towards Ballistic Missile." University of Minho Repository, at:
https://repositorium.sdum.uminho.pt/bitstream/1822/83907/1/1_INTA98_2_16_EslamiVieira.pdf.

